571 عاما على فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح
تمر ذكرى فتح القسطنطينية (اسطنبول) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ، عزيزة على المسلمين عموما والأتراك خصوصا، حيث مضى 571 عاما على ذلك الفتح الذي وصفه بعض المؤرخين بفتح الفتوح العثماني والإسلامي، والذي جاء على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
ففي يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 أيار 1453م بدأ الهجوم العام على القسطنطينية بعد أن صدرت الأوامر للجنود العثمانيين الذين صدحت حناجرحم بهتاف " الله أكبر" وهم ينطلقون نحو الأسوار، فخاف البيزنطيون خوفا عظيما، وشرعوا في قرع أجراس الكنائس،وكان هجوما متزامنا بريا، وبحريا في آن واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام؛ فتقدم العثمانيون بكل شجاعة وإقدام ونال الكثير منهم شرف الشهادة .
السلطان محمد الفاتح
هو محمد بن مراد الثاني، ولد في أدرنه عام 1429م، وهو السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان حكم ما يقرب من 30 عامًا ،تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 18 من شباط عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 عاما ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.
وبعد أن قطع أشواطا في الإصلاح الداخلي وجه أنظاره إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب النزاعات بين الدول الأوروبية ، و الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها، لم يكتف السلطان محمد بذلك بل إنه عمل من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الغربية الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن.
الاستعداد لـ فتح القسطنطينية
شجع العلماء كأمثال معلمه أحمد بن إسماعيل الكوراني السلطان محمد الفاتح، على مضاعفة حركة الجهاد، من خلال الإيحاء له بأنه الأمير المقصود بحديث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال:
" لَتُفْتَحَنَّ القُسطَنْطِينِيَّةُ فلنعمَ الأميرُ أميرُها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش" وذلك بحسب ما رواه أحمد في مسنده والبخاري في التاريخ الكبير والأوسط والبغوي وابن قانع كلاهما في معجم الصحابة والطبراني في الكبير على الرغم من تضعييف البعض لتلك الرواية .
ومنذ بداية تسلمه للسلطنة، قام السلطان محمد الفاتح بإعداد جيش كبير بلغ حوالي 250 ألف مقاتل، وشرع بتجهيز الحصون والقلاع على أطراف القسطنطينية، ولم تفلح محاولات الامبراطور البيزنطي في ثنيه بالأموال ومعاهدات الصلح، وقام الفاتح ببناء قلعة روملي حصار على البوسفور من الطرف الأوروبي مقابل قلعة عثمانية شيدت على البر الآسيوي زمن السلطان بايزيد الثاني.
كذلك اعتنى محمد الفاتح بجمع الأسلحة اللازمة لدك حصون المدينة، كالمدافع المتطورة. كما حدّث الأسطول العثماني وزاد في تسليحه حتى وصل لقرابة 400 سفينة حربية ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية. من ناحية أخرى وقع السلطان الفاتح قبيل هجومه على القسطنطينية معاهدات وهدن مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.
الهجوم على القسطنطينية
كانت القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية من 3 جهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين مسافة يبلغ عرضها 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمسةً وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنه والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنه الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م.
وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة. وبرزت عبقرية الفاتح أثناء الحصار، حيث لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدًا عن حي غلطة خوفًا على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو 3 أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة. لقد جُرت السفن من البوسفور البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة 3 أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من70 سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.
فتح من الله ونصر قريب
عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1453م بدأ الهجوم على المدينة وسط أصوات الهتاف والتكبير، بالتزامن بريا وبحريا وبأكثر من اتجاه ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كانت الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة.
بعد دخول قلب المدينة، توجه السلطان إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم قسيسون ورهبان كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفًا عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة. وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
نتائج فتح القسطنطينية على الأوروبيين و المسلمين
يعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصًا تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة. وقد تأثر الأوربيون بنبأ هذا الفتح، وانتابهم شعور بالفزع والألم والخزي، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة، وتداعوا إلى نبذ الخلافات بينهم.
وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرًا بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. واضطر نصارى أماسيا، وبلاد المورة، طرابزون وغيرهم إلى كتم شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في أدرنه لتهنئته على انتصاره العظيم.
أما في المشرق الإسلامي، فقد عم الفرح وابتهج المسلمون في ربوع آسيا وأفريقيا بعد أن تحقق حلم الأجداد وأمل الأجيال، الذي حققه السلطان محمد الفاتح فأرسل رسائل إلى حكام الديار الإسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بالنصر الإسلامي العظيم. وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والأعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة.
كما بعث بمثل هذه الرسائل إلى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاج والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا وإلى جميع أطراف مملكته. فكان فتح القسطنطينية نصرًا وفتحًا مبينًا رفع مكانة الدولة العثمانية، ومهد الطريق لنشر رسالة الإسلام في أنحاء أوروبا، وتوسعت الانتصارات التي أطالت من حكم الدولة العثمانية قرونًا وقرون.
وفي عام 2021،تميزت احتفالات إسطنبول “القسطنطينية”، بالذكرى الـ 568 لفتحها عن سابقيه.حيث ولأول مرة منذ 87 عاماً، انتقلت أجواء الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة في التاريخ التركي، إلى مسجد “آيا صوفيا” الكبير (في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول)، ذو المكانة التاريخية والدينية المقدسة لدى المسلمين عموماً والأتراك خصوصاً.حيث أنيرت آيا صوفيا بعروض ضوئية، روت قصة فتح القائد محمد الفاتح للمدينة باستخدام تقنية الهولوجرام.