تمر المملكة ب موجة حارة استثنائية بدأت الجمعة الماضية وتستمر حتى الخامس عشر من آب الجاري بحسب دائرة الأرصاد الجوية، ولتفادي الإجهاد الحراري
موجات الحر في الأردن: كيف ندير الحرارة مع شح المياه في المدن؟

يواجه الأردن تحديا مزدوجا يتطلب حلولا عاجلة واستراتيجية؛ ارتفاع درجات الحرارة المتواصل في ظل أزمة حادة في الموارد المائية، ومع محدودية المياه وشح الأمطار، تصبح إدارة الحرارة المرتفعة مسألة حياة أو موت، ليس فقط بسبب تأثيرها المباشر على صحة الإنسان، بل لما تفرضه من ضغوط إضافية على الطلب المائي والزراعة والاقتصاد الوطني.
فكيف يمكن للأردن التعامل مع موجات الحر المتصاعدة مع الحفاظ على مصادر المياه المحدودة، مستفيدا من حلول مستدامة وتجارب دولية ناجحة.
شح المياه وتأثيره على مواجهة موجات الحر وخفض درجات الحرارة
يعاني الأردن من واحدة من أخطر أزمات المياه في العالم، حيث تقل حصة الفرد السنوية من المياه إلى أقل من 100 متر مكعب، متجهة نحو مستويات مهددة للوجود بحلول عام 2040.
هذه الموارد المحدودة تواجه ضغطا مضاعفا مع ارتفاع درجات الحرارة، مما يزيد الحاجة إلى استخدام المياه لأغراض التبريد والري. وإن جفاف السدود وتراجع هطول الأمطار زادا من هشاشة الوضع، كما أن التسربات والهدر من شبكات المياه تفقد كميات كبيرة من هذا المورد الحيوي.
التخطيط العمراني المستدام: الدرع الأول ضد الحر والماء
يمكن لتطوير البنية التحتية الحضرية أن يلعب دورا محوريا في مواجهة حرارة الصيف مع تقليل استهلاك المياه. فأنظمة مثل نظام "ABC Waters" في سنغافورة تجمع مياه الأمطار وتعالجها لإعادة استخدامها، ما يخفف الضغط على الموارد العذبة، وفي الأردن، بدأ اعتماد تقنيات حصاد مياه الأمطار في بعض المشاريع السكنية في عمان، ويعد تعميم هذه التقنية ضرورة ملحة.
بالإضافة إلى ذلك، استخدام الألوان الفاتحة والعاكسة في المباني والطرق يساعد في تقليل امتصاص الحرارة، مما يخفض درجات الحرارة دون استهلاك مياه إضافية.
لماذا تشتعل المدن؟ كيف تخفف الأشجار واللون الأخضر حرارة المدن الحارقة
في المدن الحديثة، تتحول حرارة الصيف إلى تحد متزايد بسبب ما يسمى بـ"الجزيرة الحرارية الحضرية" إذ يمتص الأسفلت والخرسانة أشعة الشمس ويحتفظ بها، ما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل ملحوظ، خاصة مع ندرة المساحات الخضراء، والاكتظاظ العمراني الذي يعيق حركة الهواء. إضافة لذلك، تزيد انبعاثات السيارات، وأجهزة التكييف، وحركة المصانع من حدة هذا الاحتباس الحراري.
الأكثر تضررا هم السكان، وخصوصا كبار السن، كما يتأثر التنوع البيولوجي وتتعطل دورة مياه الأمطار الطبيعية التي لا تستطيع التغلغل إلى باطن الأرض بسبب الأسطح المعبدة.
كيف يمكننا تقليل حرارة المدينة؟
يقول جان ميشيل فالو، خبير من معهد الجغرافيا والاستدامة في جامعة لوزان، إن فرش المدينة باللونين الأزرق والأخضر هو الحل الأمثل، فالتخضير وزيادة المساحات المائية توفران ظلا وتبريدا طبيعيا عبر تبخر الماء، وهي عملية فيزيائية تخفض الحرارة، ووفقا لعالمة المناخ مارتين ريبيتي، إن تغطية الأرض بالأسفلت بنباتات كافية يمكن أن تخفض درجات الحرارة بحوالي 5 درجات مئوية.
يمكن أيضا استخدام مواد بناء فاتحة اللون تعكس أشعة الشمس، كما يمكن إنشاء ممرات هوائية داخل الأحياء السكنية تسمح بتدفق الهواء النقي، رغم صعوبة تحقيق ذلك في المدن المكتظة.
المدن السويسرية نموذجا.. تعزيز المساحات الخضراء لتلطيف المناخ
تعد مدينة سيون الأكثر تأثرا بالحرارة في سويسرا، وقد زادت من المساحات الخضراء عبر تشجير مناطق كانت مواقف للسيارات، ونجحت في تقليل درجات الحرارة.
بينما تعزز مدن مثل لوتسرن وجنيف زراعة الأشجار المقاومة للجفاف، وتخطط جنيف لزيادة المساحات المشجرة من 21% إلى 30% بحلول 2050، حيث أزالوا آلاف الأمتار المربعة من الأسفلت ليعززوا البيئة الطبيعية.
في برن، يجرون تجارب على أنواع إسفلت تقلل امتصاص الحرارة، وفي زيورخ، أكثر المدن اكتظاظا، أنشئت خرائط حرارية مفصلة لتوقع موجات الحر والاستعداد لها، إضافة إلى خطط لزيادة المساحات الخضراء، وتركيب نوافير ومظلات للحفاظ على حرارة معتدلة في المدينة.
توضح هذه التجارب أن دمج التخضير، واستخدام ألوان عاكسة، مع تخطيط عمراني يراعي تدفق الهواء، هي مفاتيح لمدن أكثر برودة في مواجهة الارتفاع الحاد في درجات الحرارة.
تشير الدراسات إلى أن زراعة الأشجار وتوفير المسطحات الخضراء لا يحد من الحرارة فقط، بل يخلق بيئة أكثر رطوبة تقلل من الإحساس بالجفاف، مما يقلل الحاجة لاستخدام المياه في التبريد. ما يجعله نموذجا يحتذى به في الأردن.
دمج التكنولوجيا في إدارة الموارد والتكيف مع الحرارة
تعد التكنولوجيا ركيزة أساسية لتحقيق التوازن بين الحد من ارتفاع درجات الحرارة وترشيد استهلاك المياه، إذ إن شبكات المياه الذكية التي تكشف التسربات وتراقب الاستهلاك تساعد في تقليل الهدر. كذلك، محطات معالجة المياه الرمادية تعيد استخدام المياه لري المساحات الخضراء، مما يخفف الضغط على المياه الصالحة للشرب.
كما يمكن الاستفادة من نوافير الشرب والرش التي تعمل على تبريد الهواء، كما هو الحال في مدن مثل بودابست وباريس، لكن بطريقة مدروسة تراعي شح المياه وتستخدم أنظمة إعادة تدوير المياه.
7 حلول معمارية مبتكرة لتبريد المباني بعيدا عن التكييف الهوائي
مع تزايد موجات الحر وارتفاع درجات الحرارة، لم يعد التكييف الهوائي كافيا، بل أصبح يضغط على شبكات الكهرباء ويزيد من استهلاك الطاقة. لذلك، يتجه المهندسون المعماريون نحو ابتكار تصميمات مستدامة تساعد في تبريد المباني بيئيا وبطريقة فعالة، مع تقليل الاعتماد على المكيفات. إليك 7 استراتيجيات معمارية تستخدم حاليا في مشاريع المباني الجديدة:
1- أسقف المظلة
تركيب سقف كبير معلق فوق النوافذ الزجاجية يحميها من أشعة الشمس المباشرة، كما يوفر ظلا للمارة. هذا الحل أثبت فعاليته في المدن الحارة مثل فينيكس ويبدأ اعتماده في مناطق أخرى.
2- المساحات الشمسية المغلقة
ابتكار فناء مغلق على الجانب الجنوبي من المبنى مع أبواب زجاجية وظلال وبلاط سيراميكي يمتص الحرارة، يعمل كواجهة إضافية لتقليل انتقال الحرارة إلى الداخل.
3- تغيير شكل المبنى
الشكل الكروي للمبنى يقلل من مساحة السطح وبالتالي يقلل من امتصاص الحرارة، بينما الأشكال المربعة والمستطيلة أقل فعالية في التبريد.
4- الأسطح الخضراء
زراعة النباتات على أسطح المباني تساعد في عزل الحرارة وتقليل درجة حرارة الداخل، وتعد بديلا أفضل من الطلاءات العاكسة التي قد تؤثر سلبا على المناخ المحلي.
5- التصميم المبني على المناخ المستقبلي
استخدام نماذج محاكاة لمستقبل تغير المناخ لتصميم مبان تدمج الزعانف الظلية والفتحات التهوية التي تستغل انخفاض درجات الحرارة ليلا لزيادة التهوية الطبيعية.
6- تحريك نواة المبنى
وضع المصاعد والسلالم والأنظمة الميكانيكية في الجانب الجنوبي للمبنى ليعمل كحاجز ضد الحرارة ويقلل الحاجة إلى التكييف.
7- التفكير الأفقي في تصميم الواجهات
تصميم الجدران بترتيب أفقي مع شرفات متدرجة توفر ظلا للمباني السفلى وتقلل من امتصاص الحرارة.
هذه الحلول المعمارية تتيح تبريدا طبيعيا أكثر استدامة للمباني، وتحد من الاعتماد على التكييف الهوائي المكلف بيئيا وطاقيا، مع توفير بيئة معيشية أكثر راحة وفعالية في مواجهة موجات الحر الشديدة.
توصيات لتقليل استهلاك المياه في المرافق المائية خلال موجات الحر
يوصى بأن تعتمد المدن التي تستخدم المرافق المائية لمواجهة موجات الحر جميع التدابير اللازمة لتقليل استهلاك المياه. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
-
دمج استخدام المياه مع خيارات البنية الخضراء التي توفر التبريد عبر تأثير الظل والمناخ المصغر الذي تقدمه النباتات، وتغطية مظلة الأشجار، والمساحات المائية الحضرية في المناطق الحضرية المكتظة التي تحتوي على نسب عالية من التربة المعبدة، وتعد أنواع الأشجار المقاومة لتغير المناخ مناسبة بشكل خاص لهذا الغرض.
-
استخدام تصاميم مبتكرة في إنشاء نوافير مياه الشرب، تهدف إلى تقليل استهلاك المياه من خلال أنظمة تمنع تدفق المياه المستمر غير الضروري.
-
تعظيم اعتماد دورة مائية مغلقة للأغراض غير الصالحة للشرب، حيث يمكن إعادة استخدام مياه الأمطار أو مياه الصرف المنزلية والبلدية لأغراض التبريد، مثل ترطيب الشوارع، بعد معالجتها بشكل مناسب.
هذه التدابير تساعد في حماية الموارد المائية مع ضمان فعالية المرافق المائية في الحد من حرارة المدن خلال موجات الحر.
التوعية والتعاون المجتمعي: مفتاح النجاح
لا يمكن مواجهة موجات الحر وشح المياه دون مشاركة فعالة من المواطنين، التوعية بأهمية ترشيد استهلاك المياه، تبني تقنيات التوفير في المنازل، والحفاظ على المساحات الخضراء، كل ذلك يُعد من الخطوات الحاسمة، كذلك، يلعب التعاون بين الجهات الحكومية، القطاع الخاص، والمجتمع المدني دوراً مهماً في تطبيق الحلول المستدامة.
مع تصاعد درجات الحرارة في الأردن وتفاقم أزمة شح المياه، لا خيار أمام المملكة سوى تبني استراتيجيات متكاملة تجمع بين التخطيط العمراني المستدام، والحلول الطبيعية، والتكنولوجيا، والتوعية المجتمعية. فالأردن يمتلك فرصا كبيرة للاستفادة من تجارب دول العالم في التكيف مع هذه الظروف القاسية، وتحويل التحدي إلى فرصة لضمان أمن مائي ومناخي أفضل لأجياله القادمة.
اقرأ المزيد.. وزارة المياه تنتقد رش مياه الشرب في الشوارع.. هدر غير مبرر في ظل أزمة مائية