أزمة أخلاق .. ظاهرة

الصورة
المصدر

عندما تبدأ بقيادة السيارة .. تكون أشد حرصًا على الالتزام بالإشارات المرورية، والشواخص التحذيرية .. وحق الطريق .. وبعد أن تمتلك الخبرة في هذا المجال .. وتراقب السائقين على الطرقات .. وتتكرر أمامك مواقف من مثل: أن تقود سيارتك خلف شخص يقود سيارته على المسرب اليسار من الشارع ببطء شديد، فتظن أن المسرب ممتلئ بالسيارات؛ فتسير خلفه بنفس سرعته معتقدًا أن الطريق أمامه مكتظ، ولأن الحركة البطيئة قد تشعرك بالانزعاج، أو تؤدي لأن تتأخر .. تحاول عندها أن تراقب الطريق بشكل أفضل؛ ويتبين لك أن لا وجود لاكتظاظ سيارات .. إنما السائق مشغول في هاتفه، أو سارح في أفكاره .. وفي مشهد آخر ترى أحد السائقين يسير على الشارع بسرعة عالية، فتسير خلفه بنفس السرعة؛ لأنك تظن أن الشارع أمامه فارغ، ثم يباغتك بتوقف مفاجئ، قد يؤدي لأن تصطدم بسيارته، أو تفقد السيطرة على سيارتك .. وتكرار تعرضك للمشهدين السابقين، وغيرهما من أخطاء السائقين في القيادة، سوف يجعلك تفقد الثقة بقيادة الآخرين للسيارات .. فتتعمد بعدها أن تقوم بمحاولات لتتجاوز السيارات الأخرى، بغض النظر عن الحالة الحقيقية لوضع السير في الشارع .. ثم تعتاد هذه التجاوزات حتى لو كان الطريق سالكًا .. وعندما يشاهدك غيرك تفعل ذلك؛ فإما أن يقلد فعلك، أو قد يبتكر أسلوبًا أكثر فهلوة .. ثم يعتاد هو الآخر فعل ذلك، حتى لو كان الطريق سالكًا .. متغافلين عن أن القيام بمثل هذه التجاوزات تعطل قوانين السير وقواعده، وتؤدي إلى ارتكاب الكثير من المخالفات والانتهاكات لحق السائقين، وحق الطريق .. كما يمكن أن تتسبب بلا شك في وقوع الحوادث والكوارث  .. 

على غرار أزمة السير هذه .. أشعر أن هناك أزمة أخلاق واضحة وجلية بين الناس .. يبدو أنها تعكس تعرض الشخص لعدد من مواقف الخيبة المتكررة من الآخرين (الخذلان أو الكذب أو التحايل أو غيرها ..)، وقد يكون تكرار تعرضه لمثل هذه المواقف من شخص واحد -صديق أو بعيد- أو أنه تعرض لها من قبل أشخاص كُثر .. وفي كل الأحوال؛ فإن تكرار تعرضه لهذه المواقف يؤدي لأن يتشكل لديه شعور بالحزن والإحباط .. ولأن الحزن مؤلم، والإحباط موجع .. فعليه أن يفكر في طريقة لتفادي ذلك الشعور، وربما يقوده تفكيره أن يلقن من آذاه درسًا لن ينساه .. فيتفنن في أساليب الإساءة إليه .. وقد يقوده تفكيره لأن يتجاوز من آذاه، ويقرر أن يعلم الدرس للآخرين أيضًا .. فيصبّ جام غضبه وأحزانه على كل من هو أمامه، غير آبه بالطريقة التي يفعل بها ذلك، ولا بما يسببه سلوكه السيء من ألم وتعاسة لغيره .. ثم يعتاد تكرار فعل ذلك .. وعندما يشاهده غيره يفعل ذلك، يقلد فعله حتى لو لم يتعرض لأي جرح أو خذلان .. ولكنه قد يعتقد أنه إن بدأ هو بتوجيه الأذى للآخرين فإنه بذلك يحمي نفسه من أذاهم، أو أنه أرفع شأن منهم وأكثر قوة .. ثم يعتاد هو الآخر فعل ذلك .. وهكذا يصبح منطق القوة، وفرد العضلات بين الناس هو السائد .. وكل يفرد عضلاته بالأسلوب الذي يراه مناسب ..

"تعددت الأسباب .. وانعدام الأخلاق واحد"

من وجهة نظري .. من هنا بدأت أزمة الأخلاق التي نعيشها في الوقت الحاضر .. أرى أنها نشأت لعدم وجود مرجعية واضحة للأخلاق التي علينا أن نتحلى بها، ونحتكم إليها .. ولكن؛ ليس لانعدام هذه المرجعة أو عدم وجودها الفعلي .. ولكن لأننا تخلينا عنها .. وآثرنا أن يتبع كل منا رأيه وهواه .. فما يراه مناسبًا هو الصواب، وما يراه غير مناسب فهو خطأ بلا شك .. وبالتأكيد فإن المناسب ما يصب في مصلحته الخاصة، ويراعي مشاعره الخاصة، ويعبر عن فكره الخاص .. حتى لو عارض رأي الجماعة، وخالف مصلحتها - ولست ضد الحرية الشخصية، وليست هي ما أتحدث عنه في هذا المقام- ولكن؛ إن المناسب في التعامل مع الآخرين، وفي حقوق الآخرين، لابد أن يكون له قواعد توجهه وضوابط تحكمه .. أما إن سمحنا لأفكارنا ولأهوائنا أن تحكم تعاملنا مع بعضنا البعض؛ فسوف نختبر أصنافًا من الخلافات، وأنواعًا شتى من الخصومات (مشاحنات ومعاكسات وعداوات) .. ثم تتنشر مشاعر الكره والحقد والغل بيننا .. ونقترف بأيدينا أزمة أخلاق خانقة، يتبع فيها أحدنا مسير الآخر، ويقلد فعله، دون أن يرى الطريق الذي يسلكه، أو يكشف معالمه.

لقد خلقنا الله تعالى بفطرة سليمة، تحمل مكارم الأخلاق بين جنبيها .. فأفسدنا هذه الفطرة وشوهنا معالمها، باتباع شهواتنا وغاياتنا .. واستبدلنا منهج الله تعالى وشريعته، بقوانين نظمتها أغراضنا وأهدافنا .. فتسببنا بأزمة أخلاق، قد تودي بنا إلى نكبات وكوارث في جوانب حياتنا المختلفة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا لا تظلموا".

اختصاصية علم نفس ومرشدة في وزارة التربية والتعليم

الأكثر قراءة
00:00:00