التافه والمفصلي

الصورة

بقلم د. فالح الرويلي

آخر تحديث

باحث، مقدم برامج "صناعة الإرهاب، كتاب وقارئ، صناعة الوعي" على إذاعة حسنى.

ثمة طرفة مسلية تحكي عن رجل سئُل كيف حافظ على علاقة زوجية دون مشاكل وخلافات؟ فرد بأنه اتفق مع زوجته على توزيع القرارات بينهما؛ هي تختص بالصغيرة التافهة من الأمور مثل تفاصيل الحياة اليومية، وهو يختص بالموضوعات المصيرية المفصلية الهامة مثل أزمة جائحة كورونا، والاحتباس الحراري وثقب الأوزون، وخلافات الكوريتين، والاتفاقيات الدولية.. وهكذا.

الطرفة مسلية ومعبرة، يبدو فيها الرجل مشغولاً في أمور عظيمة، ولكنه لن يقدم فيها أو يؤخر، ورأيه غير مجدي في المدى المنظور أو المستقبلي، ولكنه راضٍ على الأقل، ويظن أنه يصنع فرقاً.

أمثال هذا الرجل كثيرة بالمناسبة، جولة اعتيادية على (السوشيل ميديا)، تعطيك هذا الانطباع:

  • شباب جامعي في أول المشوار، ومقصر في امتحاناته الفصلية ويخبرك عن رأيه السياسي في الأحداث الساخنة والشائكة المحلية والإقليمية والدولية بكل ثقة.
  • فتاة حديثة زواج تسجل مذكراتها ونصائحها كخبيرة في الحياة الزوجية والعلاقات الاجتماعية، تخبرك عن ما ينبغي فعله وما لا ينبغي على مستوى الكوكب والمجرات المحيطة.
  • شيخ مسجد لم يكمل دراسته الثانوية ولم يحصل على أي تعليم شرعي أكاديمي أو منهجي رصين يحدث الناس في الدماء، والأرواح، والأموال، ويتكلم باسم الإله سبحانه.
  • مدرس عديم الخبرة ولا يستطيع أن يدير فصلا لمجموعة صغيرة من المراهقين يحدثك عن النُظم التعليمية، والأساليب التربوية، والنظريات النفسية، وضرورة الضرب والتعنيف.

وهكذا دواليك دواليك.

كلما كان الإنسان تافهاً صغيراً كلما بحث عن قضايا كبرى وشعارات مقدسة يتشدق بها ليعوض ذلك النقص وتلك التفاهة

أحياناً يمثل هذا النوع من الخطاب العام في القضايا الكبرى نوعاً من الهروب إلى الأمام..هروب من المسؤوليات الصغيرة البسيطة المتناسبة مع حجم الإنسان وإمكانياته المتواضعة.

كلما كان الإنسان تافهاً صغيراً كلما بحث عن قضايا كبرى وشعارات مقدسة يتشدق بها ليعوض ذلك النقص وتلك التفاهة.

لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.  لن يسأل الله سبحانه أحدنا عن رأيه في القضايا الكبرى، بل سيسأله عن مسؤولياته الواقعة ضمن إمكاناته، عن الأمانة الواقعة على عاتقه.

يُسأل الإنسان عن تلك التفاصيل اليومية البسيطة: عن ترتيب فراشه وأدواته ونظافته الشخصية، عن أسرته ووالديه وأبنائه، عن مرؤسيه في العمل وزملائه، عن علاقته بالعمال البسطاء في الشارع والمطعم والبقالة والمحلات التجارية، عن احترام حقوق الطريق، عن ابتسامته وكلمته الطيبة، عن درجات امتحانه، وأمانته وصدقه وعدله. يُسأل عن تلك الممكنات البسيطة ضمن قدراته المحدودة.

من هنا، ومن هنا يبدأ طريق الألف ميل، طريق الوصول إلى مراتب الإنسانية والعلو.

الأكثر قراءة
00:00:00