دكتوراة في بيولوجيا السرطان الجزيئية ، وباحثة في علم الأحياء الجزئية في مستشفى هايدلبرغ بألمانيا
اللقاحات وحرب الادعاءات المزيفة
منذ بداية جائحة كورونا ونحن نشهد حراكا قويا لمُنظري المؤامرة وجماعة ضد اللقاحات، وما يزيد من تعزيز أقوالهم هو ظهورهم بأسماء علمية أو ألقاب تشد انتباه المتابع و ثقته، فيصدق إشاعاتهم، ويزرع في عقله الشكوك.
ولكن أي شخص درس أو قرأ في التاريخ الطبي سيكتشف أن أعظم إنجازات الطب هي اللقاحات، وذلك منذ اكتشاف لقاح الجدري على يد الطبيب الإنجليزي إدوارد جنر عام 1796، إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية عام 1980 انتصارها بالقضاء على هذا المرض بعدما قتل قرابة نصف مليار إنسان في القرن العشرين أكثرهم من الأطفال.
وتتالت اكتشافات اللقاحات لمقاومة أوبئة فيروسية أو بكتيرية على مر التاريخ وفي كل مرة نجح فيها العلماء في إيجاد وحماية المزيد من الأرواح.
والآن مع جائحة كورونا، التي قتلت أكثر من 2.6 مليون إنسان ومع نعمة التطور العلمي والتقني وتراكمات أبحاث عشرات السنين على اللقاحات استطاع العلم أن يقدم للعالم العديد من اللقاحات، التي تحمي من الأعراض الحادة للإصابة المؤدية إلى الوفاة.
وبالتالي تقلل من عداد الوفيات وتزيح عن القطاعات الصحية غمامة الإرهاق، ولكن كعادة من هم ضد اللقاح منذ تاريخ( أدواردجنر)، وقفوا بالمرصاد وتفننوا في زرع الإشاعات وإرهاب الناس منها بحجج كثيرة، وهي حجج واهية على طاولة التشريح لأي إنسان متخصص وعلمي، إذ أن هذه المعلومات لا تمر عليه دون أن يعود إلى أصولها العلمية ،وهنا لا بد من توضيح أهم ما يتم ترويجه بين الناس حتى تطمئن قلوبهم ويسارعوا في حماية أنفسهم ومجتمعهم من فتك المرض.
وأبرز هذه الادعاءات:
اللقاحات خطيرة وغير آمنة!
هنا لا بد من التأكيد أن جميع الشركات والمعاهد التي طوّرت اللقاحات وحصلت على تصريح طوارئ من منظمات دوائية عالمية مثل منظمة الغذاء والدواء الأمريكية والوكالة الأوروبية، لم تكن لتأخذ هذه التصاريح إلا بعد أن أثبتت ن بيانات دراساتها السريرية الأمان والسلامة، وكل هذه البيانات منشورة في المجلات العلمية الموثوقة.
أما بالنسبة للأعراض الجانبية الناتجة عن أخذ اللقاحات، مثل الصداع والتعب وألم الذراع والحرارة، فهي أكثر الأعراض التي لوحظت على المتطوعين في التجارب السريرية والتي تعتبر أعراضا عادية تنشأ بسبب تفاعل الجهاز المناعي مع اللقاح، الذي يحمل جزءا من الفيروس، الذي يكون قد أدى وظيفته في استفزاز الجهاز المناعي، وتتباين الأعراض بين شخص وآخر ، أما حالات الحساسية الشديدة والتي ظهرت على بعض من يعاني من حساسية شديدة للأدوية، فهي تعتبر من الأعراض النادرة جدًا، وحسب البيانات الأخيرة الصادرة من الولايات المتحدة الأمريكية وكيان الاحتلال فإن النسبة لا تتعدى ٣ لكل مليون شخص ويتم التعامل معها بشكل سريع من الطاقم الطبي المشرف في مراكز اللقاحات.
ويبقى الخيار للإنسان إما أن يأخذ جزءا من الفيروس يوفر له حماية من خلال اللقاح أو أن يقبل احتمالية الإصابة بالفيروس الفعال، والذي قد يؤدى إلى الوفاة.
اللقاحات لا تعمل بشكل فعلي فهي لا تقضي على الفيروس؟
لا بد من الإشارة إلى أن الفيروسات دائما موجودة ولا يمكن القضاء عليها، ولكن يمكن أن نحدد انتشارها بالوقاية منها، ولا بد أيضا من التفريق بين دواء مضاد للفيروس وبين اللقاح، حيث الأخير يعمل فقط على الوقاية من الأعراض الشديدة التي تسببها الإصابة الفيروسي، أي أن الإصابة بالفيروس ستبقى محتملة ولكن لن تكون بشدة الإصابة لشخص لم يأخذ اللقاح، حيث أن اللقاح هو ورشة تدريبية للجسم للتعرف على جزء صغير من فيروس جديد لم يصب الجسم من قبل، وفي حالتنا الآن يقوم الجهاز المناعي بتخزين بياناته وإنتاج الأجسام المضادة، إذ أنه عند دخول الفيروس إلى الجسم يكون لدى الجسم خبرة بالتعامل معه، ويكون الرد المناعي مُمنهجا ومنظما على عكس حالة عدم أخذ اللقاح، حيث لوحظ أن الجهاز المناعي يتصرف بشكل عشوائي في محاولة مُستميتة منه لحماية الجسم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفعالية العالية للقاحات مثل 95٪ فايزر، أو 84٪ للقاح أستراز ينكا، أو 85٪ لشركة جونسون أند جونسون، بناء على بيانات الدراسات السريرية تشير إلى الحماية من الأعراض الحادة للمرض، ولكن ماذا عن فعاليتها العامة في إيقاف العدوى من شخص لآخر؟ إجابة هذا السؤال مازالت قيد الدراسة بعد إعطاء اللقاح لأعداد كبيرة من الناس ومراقبة أعداد الإصابة ،وهذا فعليا ما أكدته بيانات بريطانية أولية عن تدني في أعداد الإصابات منذ بداية توزيع اللقاحات، مقارنة بالفترة قبل اللقاح بنسبة تصل إلى 50٪.
المصاب سابقا ليس بحاجة للقاح
حسب التوصيات من منظمة الصحة العالمية والعديد من المنظمات الطبية ينصح المصاب سابقا بأخذ اللقاح بعد ثلاثة شهور من الإصابة، وذلك بحسب ما بينته دراسات كثيرة بإن الأجسام المضادة يقل مستواها بعد هذه المد ة. لذلك فإن اللقاح سيعزز وجود الأجسام المضادة ويعطي حماية للشخص.
اللقاح سيؤثر على المادة الوراثية
جميع اللقاحات التي تتبع تقنية "الحمض الرايبوزي" الرسول (mRNA)، لا يمكن أن تؤثر على المادة الوراثية، لأن نطاق عملها في موقع بعيد عن النواة، التي تحتفظ بالمادة الوراثية ولا يمكن أن يدخل لها شيء من خارج الخلية، كم أن العمر البيولوجي لـ(mRNA) لا يتجاوز الـ 72 ساعة ويتلاشى فور إنهاء مهمته بفعل أنزيمات خلوية.
اللقاح سيسبب العقم
لا يوجد أي دليل علمي يشير إلى علاقة بين اللقاحات والتسبب بالعقم، وهنا لا بد من الإشارة إذا كان جزء من الفيروس قد يشكل خطرا على حياة المرأة ومنعها من الحمل، إذن ماذا عن الإصابة المباشرة بالفيروس الكامل بكل بروتيناته "وجينومه" الوراثي، فقد أثبتت دراسات أن هناك العديد من السيدات استطعن الحمل بعد الإصابة بالفيروس، كما أن دراسة حديثة أكدت أنه لا فرق في معدلات حدوث الحمل بين المتطوعات في تجارب لقاحات (أسترزينكا، فايزر، وموديرنا) في مجموعتي التجارب والبلاسيبو.
اللقاح غير فعال على الفيروسات المتحوّرة
مهمة الفيروس الآن في ظل هذا الانتشار المُضطرد أن يُنشيء طفرات في (جينومه الوراثي) حتى يهرب من الجهاز المناعي، فهذه هي الطبيعة البيولوجية المعروفة في علم تطور الفيروسات، حيث فيروس كورونا تحديدًا استطاع الانتقال من الحيوان إلى الإنسان بهذه الطريقة التي تضمن له الإنتشار .
وبيولوجيا في كل عملية نسخ للفيروس داخل الخلايا المصابة يحدث له طفرات عديدة أغلبها غير فعالة أو صامتة، وكذلك معدل حدوث الطفرات في فيروس كورونا بطيء بالمقارنة مع فيروسات أخرى، مثل فيروسات الإنفلونزا التي تتطفر ؟ بشكل سريع جداً مما يستوجب تعديل اللقاحات الخاصة بها بشكل موسمي.
بالنسبة للطفرات الأخيرة التي حصلت لفيروس كورونا المستجد، فهي أدت إلى نشوء طفرات سميت حسب مواطن اكتشافها مثل المتحور البريطاني وهو الأكثر انتشارا على مستوى العالم والذي يختلف عن النسخة الأصلية بأنه أسرع إنتشارا ولوحظ إزدياد في أعداد الإصابات إبان إكتشافه ، أما المتحوران البرازيلي والأفريقي فانتشارهما محلي حتى الآن.
بيولوجيا لم يكن التغيير الذي حصل بالفيروس كافيا لتجنبه اللقاح ولكن مع ذلك أثبتت الشركات المصنعة بالأبحاث أن لقاحاتها فعالة على المتحورين البريطاني والبرازيلي، بينما قلت فعاليتها بنسب متفاوتة مع المتحور الأفريقي، وكان لقاح جونسون هو اللقاح الوحيد الذي سيطر بفعالية ممتازة كل المتحورات.
وهنا أصبحت عملية تسريع عملية إعطاء اللقاحات في مختلف دول العالم ضرورة كبيرة ، لأنها ستقلل من إنتشار هذه المتحورات وأيضا تحول دون نشوء تحورات جديدة قد يفقد عندها اللقاح فعاليته ولكن حسب خبراء الفيروسات، فإن فيروس كورونا ما زال يحتاج الكثير من الوقت ليهرب بشكل كامل من كل اللقاحات المتاحة حالياً.
أخيرا لا بد أن أشير أنه رغم المقدرة على ملاحقة هذه الإشاعات من قبل العديد من أهل الاختصاص، فإن هذا الوباء معلوماتي كما اعتبرته منظمة الصحة العالمية، لكن يبقي الوعي الفردي والمجتمعي هما أساس الحماية.
وهنا لا بد أن أذكر مقال ممتع ومهم نشر على مجلة لانسيت العلمية في شباط (فبراير)، يشرح فيه معنى أن يكون اللقاح فعالا بنسبة 95٪ بشكل عملي داخل المجتمع، فلو افترضنا أن معدل العدوى هو 1 فإن عدد المصابين في مجتمع مكون من 100 ألف نسمة غير ملقحين سيكون 1000 مصاب تقريبا، ولكن في حال أخذ هذا المجتمع لقاحا فعاليته 95٪ فإن عدد الإصابات ستكون 5 تقريبا، وهنا يبقى للإنسان الخيار في حماية نفسه وحماية المجتمع.