بحيرة التماسيح

الصورة
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

لم يكن يخطر ببالي يوماً أنني سألتقي وجهاً لوجه مع تمساح حقيقي حي، فهو أمر مستبعد لمن يعيش في بلادنا العربية و الأردن تحديداً. ولكن.. إذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فعندئذٍ نجد كل الظروف والمعطيات تتكيف وتتوجه لتحقيق الإرادة الإلهية، مهما كان احتمال توقع الحدث ضئيلاً أو معدوماً، وهكذا كان ما كان.

يتوجه ولدي للتخصص الطبي في أميركا و تسير به سفينة القدر إلى ولاية فلوريدا، و يوجه الله الدعوة لي لزيارة ابني هناك، ليس هذا فقط، بل يشاء القدر أن يستأجر ابني سكناً في مجمع يطل على إحدى البحيرات في مدينة أورلاندو، لذلك كان من الطبيعي لشخص مثلي قادم من الأردن أن أضع أول هدف لي بعد الوصول إلى المسكن أن أزور البحيرة الجميلة في الصباح لأستمتع بمنظر الماء الصافي والنجيل الأخضر المحيط به، وهما يتعانقان بكل عفوية وانسجام بلا حواجز و لا مصدات و لا سياج حديدي أو شيك معدني!

لا أدري لماذا خطر ببالي الشيك المعدني! لعلها إشارة ربانية لما سيحدث بعد ذلك.

في الصباح الباكر استيقظت قبل باقي أفراد البيت وقررت الخروج لاستنشاق الهواء واستطلاع البحيرة المحاذية لمسكننا و لمواقف السيارات، المنظر كان جميلاً جداً، وصوت الطيور مع أوراق الشجر الداكنة الخضرة المتراقصة مع نسمات ريح الصباح كان يضفي للموقف جمالاً يجعل الإنسان يخشع مسبحاً للخالق العظيم على بداعة خلقه، ومثنياً على جهود البشر الذين خططوا وعملوا وأداموا وحافظوا على جمالية هذا الموقع.

وفجأةً! لفت نظري وجود لافتة بيضاء بكتابة حمراء، فاقتربت لأقرأ ما كتب عليها، ويا للهول!!

إنها صورة تمساح!!

مكتوب تحتها: "لا تطعموا التماسيح رجاءً"

عن أي تماسيح يتحدثون؟! لعلهم يمزحون!!

نظرت إلى المياه الصافية الجميلة، فإذا بعينين جاحظتين تبرزان من سطح الماء الساكن الذي لا تعكر سكونه إلا نفثات زفير صاحب تلك العينين، اللتين تنظران لي بتركيز شديد!

يا سلام! أنا أخاف من الصرصر الصغير و ارتعب من شنباته، فأجد نفسي أمام تمساح كبير منفرداً بي ولا يفصله عني إلا أمتار معدودة بلا عوائق و لا حواجز! لعل هذا هو تأويل ورود الشيك المعدني على بالي، تباً لبلدية أورلاندو! لماذا لم يضعوا جداراً من حديد يفصل بيننا؟ يا ترى كم ضحية سبقتني إلى حتفها داخل أمعاء هذا التمساح المخيف؟ كيف السبيل للنجاة من هذا الفخ الرهيب؟ لحظات عصيبة تصرفت بها بعقلانية شديدة، إذ تراجعت إلى الخلف بهدوء لكي أبتعد مسافة مناسبة قبل أن أطلق قدمي للريح هرباً إلى المنزل و لساني يلهج بالشهادتين تحسباً لما لا يمكن حسبانه.

دخلت المنزل بوجه شاحب مفزوع، فاستقبلني ابني الذي قلق لحالي بدايةً ثم زال قلقه بعد أن قصصت عليه ما حدث وهو يستمع و يضحك ببرود شديد، لا تقلق يا أبت فهذه التماسيح تعرف حدودها و لا تغادر البحيرة إلا في حالات نادرة جداً، و هي لا تقترب من البشر لأنها قد تعودت أن تأخذ طعامها صيداً في البحيرة، لذلك لا يُسمح بإطعامها من قبل الناس، كي لا تتغير عادتها فتبدأ بالتقرب من البشر و الهجوم عليهم لغايات الحصول على الطعام.

ماذا تقول؟! لا يطعمون التماسيح و كفى؟! من يكفل التزام الناس؟ من يضمن وداعة التماسيح وانقيادهم لهذه الفرضية وبقائهم في محيط البحيرة؟!

أيعقل ذلك؟!

نعم، هو كذلك.. و هذا هو الأثر العميق للالتزام بالقواعد والتعليمات في ضبط السلوك وتحقيق الأمان والسلامة العامة على كافة المستويات.

لقد قضيت أسبوعين في هذا المكان وزرت متنزهات أخرى بنفس الوضع، ترى الناس فيها كباراً و صغاراً يلعبون ويمرحون بقرب الماء الذي تسبح فيه التماسيح، فلا هي تقترب منهم ولا هم يتحرشون بها.

ولا أخفيكم أنني كنت دوماً أشعر بالقلق والوجل كلما خرجت من المنزل أو عدت إليه متخيلاً التمساح مختبئاً هنا أو هناك بانتظاري، ولكن ألطاف الله كانت لنا حرزاً ودرعاً من كل سوء ولله الحمد. والذي كان يزيدني تعجباً هو تصرف الناس المطمئن -أكثر من اللزوم- للحركة و التنزه بجانب البحيرة، وكذلك انضباطهم الشديد في تطبيق التعليمات والمحافظة على نظافة المكان وديمومته وعدم التحرش بالتماسيح بتاتاً ومحاولة حمايتها باعتبارها ثروة وطنية.

شعور عام بالانتماء والمسؤولية والالتزام تلمسه في كافة المجالات، رغم تعدد منابت الناس وتفاوت مستوياتهم الثقافية، هذا الشعور أثار تساؤلات ملحة في عقلي:

  • كم ضحية افترسها التمساح ذو العينين قبل أن يتعلم الناس الدرس ويلتزموا بالتعليمات؟
  • من أين بدأت لديهم عملية الوعي والشعور بالمسؤولية تجاه سلامة المجتمع؟ من الفرد؟ أم من الإدارة؟ أم من المدرسة و البيت؟
  •  لمن يعود الفضل في تشكل الوعي لدى الناس؟ ومن ثم انقياد الجميع للنظام مع وجود الاستثناءات طبعاً؟
  • ثم، من هو الفرد؟ و من أين تتكون الإدارة أو البيت أو المدرسة؟ أليسوا هم بمجموعهم يمثلون عناصر المجتمع؟ فهل المسألة متعلقة بأحد العناصر أم بشيءٍ آخر؟

مضت الأيام وقفلت عائداً إلى الأردن، وبينما أنا في الطائرة مودعاً بحيرات أورلاندو وتماسيحها جال خاطري في شوارع عمان الحبيبة ومنتزهاتها وتذكرت الأسيجة الحديدية التي نحدد بها الأرصفة والجزر الوسطية، في منطقة جبل الحسين والمدينة الرياضية وشارع الجامعة.. وغيرها الكثير.

أسوار وحواجز نضعها لكي ننظم عبور المارة والمركبات فتخنقنا، كذلك تذكرت الحواجز التي نضعها لمنع الأطفال من السباحة في السدود والبرك، فكّرت فيها وفيما نفعله بحالنا ثم قارنت ذلك بحال صديقنا التمساح الأورلاندي ذو العينين، فتعجبت وتألمت!

كم من الأرواح البريئة زهقت وكم من موارد الدولة والمجتمع بددت على حواجز ومطبات وأسلاك شائكة، ونحن لا نزال أقل انضباطاً من ذلك التمساح؟

ماذا ينقصنا لكي نتعلم الانضباط والالتزام وتقديم مصلحة المجتمع المستدامة على حساب مصالحنا ورغباتنا الآنية؟

لماذا لا ننضبط إلا بحدوث كوارث ومصائب تدمي قلوبنا، أو بوجود حواجز حديدية تقمعنا ولربما لا يجدي وجودها نفعاً لغياب الإرادة الحقيقية للانضباط، بل قد يقوم البعض بالاعتداء على هذه الحواجز أو سرقتها أو تخريبها من أجل منفعة تافهة أو لهوٍ غير مشروع ينتهي غالباً بكارثة أو مصيبة.

هل نحتاج إلى تمساح يأتي من "هناك" ليعلمنا و يرأب نواقصنا؟

لقد سبقنا آخرون بهذا التفكير العقيم، فسحقهم التمساح "الوديع" القادم من الغرب بأنيابه الكاسرة، وقد كانوا ينتظرون منه أن يجلب لهم الحرية و الرفاه، و لم يدركوا إلا متأخراً بأنه ترك وداعته وراء ظهره، وجاءهم مكشراً عن أنيابه و متأبطاً شره ووحشيته ليذيقهم الويل و الثبور.

وباعتقادي أن الجواب على مجموع هذه التساؤلات يمكن أن يكون مفتاح الحل لكل ما نواجهه من تحديات وما نعانيه من تردٍ و تراجع في كافة نواحي الحياة.

نحن لا ينقصنا رجال ولا نساء ولا عقول ولا جذور، بل بالعكس نحن أكثر الأمم حباً وتعصباً لبلادنا وأهلنا وأعرافنا، ولكننا نفتقر إلى نظام التشغيل Software المحرك لكل هذه الطاقات والموارد، إلى العقد الاجتماعي الواضح والصريح والحكيم، الذي يضبط بوصلة المجتمع ويضمن العدالة والتشاركية بين أفراده، فيتبادلون الأدوار ويتحملون المسؤولية، كل من موقعه في تصالحٍ وانسجام، عندئذٍ لن تجد التماسيحُ بداً إلا أن تلزم حدودها وتنحني لإرادة الإنسان الذي استخلفه الله على هذه الأرض وطوّع كل الكائنات لخدمته.

الأكثر قراءة
00:00:00