قانوني، كاتب
غياب النظرية السياسية وأسلوب التداول السلمي للسلطة في الموروث الإسلامي
بداية لا بد أن ندرك أن العلوم الإنسانية السياسية هي علوم تراكمية وأننا لا نحاكم العصور الإسلامية الأولى بأدوات اليوم وما توصلت إليه البشرية من منجزات كبيرة في هذا المضمار في العصر الحديث، وإذا فعلنا ذلك فنحن كمن يهاجم منجزات طب ابن سينا ومقارنتها بعلوم الطب الحديثة، فالعلوم تراكمية ولا فضل لأحد على أحد ولا أمة على أمة في ذلك، فكل العلوم بنيت في مرحلة من المراحل بمشاركة أمة من الأمم بما فيها الأمة الإسلامية.
مفهوم الدولة في الإسلام لم يكن بذات الوضوح كما نفهمه حاليا، فقد أطلق مفهوم الدولة على حكم العوائل؛ فنقول الدولة الأموية أي حكم بني أمية، ونقول الدولة العباسية، والدولة العثمانية، وكلها إشارة إلى حكم تلك العوائل وتوارثهم للمُلك.
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من مصادر التشريع،التي فصلت كل أمور الدين لكنها لم تتطرق إلى أسلوب و طريقة انتقال السلطة باعتبار أن الأمر شأن دنيوي لا شأن ديني يترك للناس ومصالحهم ، وإن وردت بعض القيم العامة لا النظم التفصيلية في ذلك، وترك الأمر لاجتهاد الناس وحاجاتهم وضرورات الحياة وتطورها ، حتى أن الرسول الكريم صلوات الله عليه عندما جاءه الأجل لم يحدد آلية لطريقة انتقال الحكم ولم يسم من يخلفه باعتبار أن هذه المسألة دنيوية تحكمها مصالح العباد وحاجات الناس لا أحكام الدين، فالدولة حاجة بشرية وضرورة دنيوية لا حاجة دينية، وإن جاء الدين بإشارات وقيم عامة تحكم المسألة كتحقيق العدل بين الناس ...الخ .
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد أصحاب رسول لله في طريقة انتقال الحكم والسلطة فكانت البيعة الأولى نخبوية في سقيفة بني ساعده للخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن ثم تحولت إلى بيعة شعبية، ثم كان الانتقال الثاني بالاختيار المباشر من الخليفة لمن يليه واتفق المسلمون على اختيار أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، ثم كان الاختيار الثالث بعد طعن سيدنا عمر بن الخطاب فابتدع طريقة جديدة أسماها أهل الحل والعقد، نقلها الصحابي عبد الرحمن بن عوف وهو أحد أهل الحل والعقد الذي اختارهم الخليفة عمر رضي الله عنه - بعد أن نزع نفسه من تولي الخلافة على أن يترك له الحق في اختيار من يخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه - نقل طريقة اختيار الخليفة إلى شبه انتخاب ، إذ تقول الروايات أنه كان يطرق الأبواب على الرجال والنساء ويسألهم من يريدون ليحكمهم فكانت غلبة الاختيار لعلي رضي الله عنه ، لكن سيدنا علي رفض أن ينزل على اشتراطات ابن عوف رضي الله عنهما، بإن يلتزم باجتهاد أبي بكر وعمر ممن سبقوه في الخلافة فأعطى ابن عوف الخلافة لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد أن قبل أن يلتزم باجتهاد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعا، بعد سنوات من حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه وقعت فتنة مقتله، وشارك فيها محمد بن أبي بكر الصديق كما تقول الروايات، فكانت بعدها فتنة حرب صفين والجمل ومقتل سيدنا علي بعد ذلك والحسين ثم تحول الحكم إلى حكم جبري ينتقل بالوراثة، فكانت جميع الممالك الإسلامية بدءا من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية إلى أن وصلنا إلى الدولة العثمانية الحكم فيها حكم جبري وراثي ينتقل بالسيف أو الوراثة، حتى يومنا هذا دون مشاركة الناس في اختيار الحاكم.
فقه الحاكم المتغلب
في أثناء هذه الممالك الجبرية كان هناك صراع كبير بين الحاكم وبعض علماء الدين، الذين كانوا يرفضون التسلط دون أن يكون لهم نظرية واضحة في طريقة تصعيد الحاكم بديلا عن الوراثة والسيف، فتم اضطهاد الإمام أبو حنيفة في نهاية الدولة الأموية وقتل بعد ذلك في الدولة العباسية، وتم نفي الشافعي وقتل بتحريض مذهبي، وتم تعذيب الأمام مالك ، لكن الأمام أحمد ابن حنبل بعد كل ذلك الصراع استطاع أن يخرج من هذا الصراع بفقه جديد أسماه "فقه الحاكم المتغلب "، وهو إعطاء الشرعية لمن يملك القوة والسيطرة على الحكم حتى تستقر الحياة السياسية والتي تعني استقرار حياة الناس ومعاشهم ، واستمر هذا الفقه إلى يومنا الحاضر وتطور ونقل إلى أن وصل إلى ما يعرف الآن بالفقه الجامي وهو أقرب إلى تقديس قادة العروش .
نشطت في الدولة الأموية والدولة العباسية حركة الترجمة من كل العلوم من الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية، إلا أن العلوم السياسية التي تم ميلادها الأول في الحضارة اليونانية على يد الفلاسفة اليونان لم تترجم فأصبحت الأمة العربية والإسلامية ثرية في معظم العلوم المادية والإنسانية إلا العلوم السياسية.
غموض في طريقة تداول السلطة
لا زلنا إلى يومنا الحاضر نفتقر في الفكر الإسلامي الحديث ورغم ميلاد الإسلام السياسي (السني والشيعي) الذي أعتبر الحكم جزءا من الدين والعقائد وقامت الجماعات الإسلامية السنية والشيعية على أساس استرجاع الدولة باعتبارها جزءا من الدين لكن لا زال هناك غموض كبير في مسألة اختيار الحاكم وطريقة تداول السلطة، وإن كانت هناك شروحات كثيرة تتحدث عن صفات الحاكم وواجباته وحقوقه، لكن كل ذلك الميراث لم يتحدث عن طريقة اختيار الحاكم والتداول السلمي للسلطة ودور الشعب في هذا الاختيار.
رغم فقرنا كأمة إسلامية في العلوم السياسية وعلى وجه الخصوص في التداول السلمي للسلطة باعتباره الركيزة الأولى في استقرار البلاد ونهوضها، إلا أنه لا زالت الكثير من التجمعات ذات الفكر الإسلامي ترفض فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة التي ابتدعها الغرب.والكثير من الجماعات الإسلامية السنية تعتبر الحكم جزءا من الدين وترفض فكرة الديمقراطية والمنتج الغربي في العلوم السياسية حتى من قبلت بالمنتج الغربي في العلوم السياسية؛ عمليا قبلت به بعد السبعينيات من القرن الماضي والمد الإسلامي الكبير لأن الديمقراطية والصناديق جاءت بالحركات الإسلامية، لكن هذه الحركة لا زالت ترفض المنتج الغربي نظريا وتنظر للمنتج الغربي كنوع من الغزو الثقافي وتؤلف الكتب في تحريم المشاركة في الأنظمة القائمة والمشاركة الانتخابية.
يرفض أتباع الجماعات الإسلامية الجلوس كتلاميذ يتعلمون من الحضارة الغربية في العلوم السياسية وبنفس الوقت عجزوا أن يكونوا منتجين لهذه العلوم، وحتى نتجاوز حالة الرفض والعجز علينا كمسلمين أن نجلس كتلاميذ نجباء في التعلم من المدرسة الغربية في العلوم السياسية ثم نأخذ زمام المبادرة ونطور ونبني ونكمل ما حققه الغرب في هذا المضمار من العلوم الإنسانية وبدون ذلك سوف نبقى نخوض في وحل الجبرية والاستبداد والنكوص الحضاري، بينما الأمم تتقدم في كل شيء وتسعد وتنهض بما انتجه العقل الغربي في العلوم السياسية والإنسانية