فليغرسها: نقطة خضراء

الصورة

عندما أسترجع شريط الذكريات خلال نصف قرن من الزمان، أجدني أقف أمام جدارية ضخمة مرسومة بلونين هما: الأخضر والرمادي، عبر تحولات الإنسان والمحيط الخارجي.

 تبدأ رحلة الألوان من مدينة الزرقاء والرصيفة ووادي السير ثم تنتهي في الطفيلة والعقبة لترسم دروسًا في الاستدامة والحياة الطيبة في البلد الطيب بلد الصادقين و المفلحين من المهاجرين والأنصار.

تفتّحت عيناي وأنا في السادسة من عمري وأنا أعبر نهر الأردن لأعبر بحر الحياة.. بدأت طفولتي وأنا أسبح في نهر الزرقاء ونصيد الأسماك في الستينات، ثم انتهى بي المطاف أن أساهم في إعادة تأهيل سيل الزرقاء عام 2007 مع بداية الأزمة المالية العالمية، وكنا نقضي نهاية الأسبوع في منتزهات الرصيفة (لبنان و إشبيليا) قبل خمسة عقود، وبعد حين ساهمت في إعادة تأهيل مكبات الفوسفات في الرصيفة 2003، نتيجة النمو الصناعي والعمراني.

من المهم أن ندرك أن هناك كلفة للنمو الاقتصادي، لذا لا بد من التفكير في الاستدامة وفي الجيل القادم

إنّ جوهر المشكلة البيئية يكمن في الفهم العميق لقصة خلق الإنسان والأرض ودور الإنسان في عمارة الأرض وفي كونه شاهداً وليس مستهلكًا فحسب.

وهنا سأقف على ثلاثة محاور للتأمل في الأزمة البيئية في الأردن، والتي هي امتداد لما يجري في العالم في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية و البيئية من فقرٍ وتغيّر مناخ وتدهور بيئي وحروب وهجرات وأزمة في الماء و الغذاء والطاقة واتساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء.

المحور الأول يتمثّل في أهمية استرجاع الذاكرة التاريخية واستلهام العبر والدروس لبناء معرفة وحكمة محلية.

أما المحور الثاني يكمن في البصيرة البيئية وفهم جوهر الأزمة البيئية وضرورة تطبيق مفهوم (الميزان) والتوازن والاعتدال والحصافة في كل مناحي الحياة.

 أما المحور الثالث فهو استشراف المستقبل والإيمان بأن المستقبل خيار وليس قدرا، وأن امتلاك ناصية المستقبل هي للأمم التي تدرك قيمة الوقت والعمل والعلم وبناء المؤسسات التي تحقق العدالة والنزاهة والمواطنة.

ذاكرتنا التاريخية تتشكل في البيت والحي والمدرسة، حيث تعلمنا ونحن صغار على أن التعليم والعلم هو السبيل للخروج من التبعية والاستعمار، وتعلّمنا في أحياء عمّان العريقة التنوّع الاجتماعي من الشركس والشيشان وأهل الشام والحضر والريف والبدو والمهاجرين هو أساس الاستدامة المجتمعية تماماً كما أن التنوع البيولوجي مهم لاستدامة الحياة كذلك التنوع الاجتماعي والعرقي.

ذاكرتنا التاريخية في المدرسة كانت ترتكز على أن المدرّس ليس موظفًا بل هو صاحب رسالة، وهو يسعى أن يكون الإنسان أكثر أصالة وعمقاً ومعنى.

كانت هذه المدارس الحكومية الرصينة قبل عولمة التعليم هي بمثابة حاضنة الأعمال ومختبر الابتكار الاجتماعي.

أتذكر كيف أن أستاذ الفنّ أحمد البيروتي أشرك الطلاب في رسم جدارية في المدرسة وكانت الألوان تحكي قصة إعادة بناء الشغف في الحياة.

وكان الأستاذ صالح الكردي يزرع في ساحة المدرسة ويحض المتطوعين لبناء حديقة المدرسة، وكان الأستاذ محمد الحسنات يشرح التاريخ القديم والمعاصر ويبني سردية المستقبل والحلم العربي.

وكانت المساهمة في مقصف المدرسة (الكافيتريا) بربع دينار طيلة السنة تعود على الطالب المستثمر آخر السنة بنفس المبلغ وكان هذا أول درس في الاستدامة المالية.

وكانت الإذاعة المدرسية ومجلة الحائط ومباراة الرياضة مع المدارس الأخرى وكل هذه الحكايات الصغيرة ترسم عمق الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية.

وكان مبدأ احترام الجار والقناعة والتفكير بالآخر هو أساس لبناء الرأس المالي الاجتماعي والفكري. أما البصيرة البيئة، فتبدو جلية في التوازنات والخيارات بين حماية الطبيعة في الرصيفة وعجلون و ضانا أو السير في مسار التنمية الاقتصادية بدون بصيرة.

فكرة الاستدامة هي تجسيد لهذه البصيرة، لأن المال وحده لا يشتري الهواء النظيف والصحة وهذا بدا جليًّا في ظلّ جائحة كورونا منذ عام 2020.

وتشير الدراسات أن جوهر الوباء هو في نمط الزراعة ونوع الطعام وعلاقتنا مع الطبيعة والابتعاد عن الطعام الطيِّب والإمعان في فكرة تسخير الطبيعة.

والمفارقة أننا وبعد مضي عام، ما زلنا نبحث عن تفسير لسبب الجائحة، وهذا يلقي ظلالاً على إشكالية نهج السوق وعولمة الاقتصاد، حيث أن النظام الرأسمالي مهدد بالفشل، لأنه لا ينبؤنا بالحقيقة البيئة.

ونحن نفقد كل يوم أعِزّاء لنا جراء هذه الجائحة لا بد أن ننظر في المرآة الجانبية لامتلاك القدرة على تجاوز المنعطفات التي تهدد استدامة الحياة والحضارة الإنسانية.

وفي خضم هذا الطوفان، من سيبني السفينة؟ قد نكون نحن الطوفان، وجاء هذا الفيروس كي يعطينا مهلة لبناء السفينة و إحياء الأخلاق الرفيقة في البيئة والتعاطف مع البيئة والإنسان، جاء الفيروس كي نرعى حاكورتنا و حديقتنا المنزلية المنتجة وحاراتنا القديمة ومدارسنا العريقة، ونثمّن الأشياء الصغيرة مثل السوسن و الحسّون وزيتون عجلون و تين وادي السير ولوز أم قيس وعنب السلط.

أما استشراف المستقبل فيكمن في قصة بناء سنغافورة واسترجاع قصة تحرّر جنوب أفريقيا قبل حوالي ثلاثة عقود، حيث تم رسم عدة مشاهد (سيناريوهات) للمستقبل باستخدام الرمز والاستعارة، أحدهما كان يمثل طائر الفلامنجو (النحام)، والآخر النعامة والبطة العرجاء وطائر الثلج الأسطوري الذي يحترق كلّما اقترب من الشمس.

نمتلك القدرة على الطيران، لأننا نؤمن بأن المستقبل خيار، وليس قدرا"

اختار الشعب طائر الفلامنجو الذي يرنو للحرية والتحرر كرمز لانطلاقة جديدة، حيث يضرب هذا الطائر أرجله بالأرض عدة مرات كي يمتلك قدرة على الطيران.

نحن في هذا البلد الطيب المبارك، نمتلك القدرة على الطيران والتحليق، و نستمد الهمة من زيد وجعفر ومعاذ وسعد وعبدالله بن رواحة وأبو عبيدة، "نمتلك القدرة على الطيران، لأننا نؤمن بأن المستقبل خيار، وليس قدرا".

دلالات

خبير و مستشار دولي في التنمية المستدامة و تحليل السياسات العامة مقدم برنامج "فليغرسها" على إذاعة حسنى

الأكثر قراءة
00:00:00