ماهية الحقوق والحريات الدستورية

الصورة
جهاد العتيبي
جهاد العتيبي

بقلم: جهاد العتيبي

المصدر

الأصل في مواد الدستور أنها لا تتعارض أو تتنافر مع بعضها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنظمها، من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة، في مراحل تطورها المختلفة، ويتعين دوماً أن يُعتد بهذه النصوص بوصفها متآلفة فيما بينها وتتجانس معانيها وتتضافر توجهاتها.

ولا محل بالتالي للقول إلغاء بعضها البعض بقدر تصادمها، ذلك أن نفاذ أحكام الدستور وفرض أحكامها على المخاطبين بها يفترض العمل بها في مجموعها، وشرط ذلك اتساقها وترابطها، والنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضموناُ ذاتياً، لا ينعزل به عن غيره من النصوص يتعارض معها، بل يقوم إلى جوارها متسانداً معها مقيداً بالأغراض النهائية والمقاصد الكلية التي تجمعها. 

الحريات الدستورية

وحيث إن حرية الرأي تُعد من الحريات الأساسية، التي تقتضيها طبيعة النظام الديمقراطي وتعد ركيزة لكل حكم ديمقراطي سليم، لذلك تعتبر الحرية الأصل الذي يتفرع عنه الكثير من الحريات والحقوق العامة الفكرية والثقافية وغيرها، وتعد المدخل الحقيقي لممارستها ممارسة جدية كحق النقد وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي.

ولما كانت حرية الرأي تعد من الدعامات الأساسية، التي تقوم عليها النظم الديمقراطية، فقد غدت من الأصول الدستورية الثابتة في كل بلد ديمقراطي متحضر وحرصت على توكيدها، فقد نص الدستور الأردني في المادة 15/1 على:

تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون.

وحيث إن حرية التعبير تمثل في ذاتها، قيمة عليا لا تنفصل الديمقراطية عنها، وإنما تؤسس الدول على ضوئها مجتمعاتها صوناً لتفاعل مواطنيها معها بما يكفل تطوير بنيانها وتعميق حرياتها، وإن جاز القول بأن لحرية التعبير أهدافها التي يتصدرها بناء دائرة للحوار العام لا تنحصر آفاقها ولا أدواتها، تُقرب الحقائق إليها، فلا يكون التعبير عن الآراء حائلاً دون مقابلتها ببعض وتقييمها ولا مواجهتها لآراء قبلها آخرون، بما يؤدي إلى تهميشها ولا تلقيها عن غيرهم مانعا من ترويجها أو مقصوراً على بعض جوانبها ولا انتشارها من مصادر نزدريها بما يستوجب إعاقتها أو تقييدها، كذلك فإن نماء الشخصية الفردية وضمان تحقيقها لذاتها إنما يدعم إسهامها في أشكال من الحياة، تتعدد ملامحها بما يكفل حيويتها وترابطها، فلا يقتضي تنظيمها إلا أقل القيود التي تفرضها حالات الضرورة.

وحيث إن حرية التعبير- كلما كان نبضها فاعلا، وتأثيرها عريضا- فهي الطريق لبناء نظم ديمقراطية، تتعدد معها مراكز اتخاذ القرار، تتسم بتسامحها مع خصومها ومسؤولياتها قبل مواطنيها، وبرفضها لكل قيد يخل بمصداقيتها واستجابتها بالإقناع لإرادة التغيير، وطرحها من خلال الحوار لبدائل يفاضلون بينها لاختيار أصلحها أيا كان مضمونها، وبما إن الآراء على اختلافها لا يجوز إجهاضها ولا مصادرة أدواتها أو فصلها عن غاياتها، ولو كان الآخرون لا يرضون بها أو يعارضونها أو يرونها منافية لقيم محدودة الأهمية يروجونها أو يحيطون بنشر مخاطر يدعونها، ولا يكون لها من وضوحها وواقعها ما يبرر القول بوجودها.

وبما إن الدستور في العادة يولي الاعتبار الأول لمصالح الجماعة بما يصون مقوماتها، ويكفل إنماء قيمها الاجتماعية، والخلقية والدينية، بالغاً من خلال ضمانها ما يكون في تقديره محققًا للتكافل بين أفرادها نابذا انغلاقها وإهدارها في الوقت ذاته.

لذلك فالحقوق التي يقررها الدستور، والقيود التي يفرضها - وأياً كان مداها أو نطاقها - لا يعمل في فراغ، ولا ينتظم مجرد قواعد آمرة، لا تبديل فيها إلا من خلال تعديلها، وفقاً للأوضاع التي ينص عليها، إذ هو وثيقة نابضة بالحياة، تعمل من أجل تطوير مظاهرها في بيئة لها مقوماتها الاجتماعية والخلقية والدينية النابعة من ذاتيتها، متخذة من الخضوع للقانون إطاراً لها ملتزمة إرادة شعبية ترنو دائماً إلى تضامنها وتماسكها مقررة مسئولية القائمين بالعمل العام أمامها على الحفاظ على قيم ومبادئ ومقومات المجتمع، مبلورة لطاقاتها وملكاتها ولا مناص من الرجوع إليها، تغليباً لأحكامها التي تمثل القواعد الآمرة.

فالشرعية الدستورية في نطاقها هي التي تكفل ارتكاز السلطة على الإرادة العامة، بما يراعي قيم ومبادئ المجتمع ومقوماته الأساسية وتقويم اعوجاجها، ومنها تستمد السلطة فعاليتها بما يعزز الأسس التي تنهض بها الجماعة، ويرعى الحفاظ عليها وتقدمها في آن واحد يؤدي إلى تماسكها وعدم إهدار قيمها ومقوماتها المختلفة.

أحكام الدستور

وبالرجوع لأحكام الدستور الأردني يتبين أنه نهج على ترتيب فصوله، إذ خصص الفصل الأول للدولة ونظام الحكم، وحسناً فعل المشرع الدستوري بأن خصص في الفصل الثاني قبل الفصول الأخرى المتعلقة بسلطات الدول واختصاصاتها، بأن جعل هذا الفصل متعلقاً بحقوق الأردنيين وواجباتهم، فنص في المواد من (5-27) على الحريات والواجبات العامة، بكل أنواعها وصورها، حق الأردني بالجنسية والمساواة أمام القانون، وكفالة حق التعليم والعمل، وان الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن, يحفظ القانون كيانها الشرعي ويقوي أواصرها وقيمها، وعلى حماية القانون الأمومة والطفولة والشيخوخة ورعاية النشء وذوي الإعاقات ويحميهم من الإساءة والاستغلال وجعل من الاعتداء عليها أو حرمة الحياة العامة جريمة يعاقب عليها القانون. 

ولما كانت الحريات العامة لم يقيدها المشرع الدستوري بقيد، إلا أن هذه الحرية ليست طليقة من كل تنظيم، فإن تلك الحرية تمارس في نطاق المبادئ والمقومات الأساسية للمجتمع بما لا يمس قيمه الاجتماعية، والدينية والروحية والخلقية التي تحدد لهذه الحرية الدائرة التي تتحرك فيها، وتمارس من خلالها، لذلك أوكل الدستور للقانون تنظيم هذه الحريات، بما لا يمس أصلها أو جوهرها وهو القيد العام، الذي وضعه الدستور على سلطة المشرع العادي في تنظيم ممارسة الحقوق والحريات كافة، ذلك أن تدخل المشرع هو لصيانة القيم والمبادئ التي يقوم عليها بناء المجتمع، واحترام الشعور العام لأفراده، وإن كان الدستور يكفل للآراء والتعبير عنها الحرية التي تكفل ممارستها في إطارها الدستوري، إلا أن حدود التأثير التي يبلغها أي انتهاك شائن تجعله غير جدير بتلك الحماية، الدستورية. 

ومع الانتشار الواسع لوسائل التواصل السمعية والبصرية وغيرها من وسائل الإعلام، بأن تلتزم بإطار وحدود الحرية المشروعة في التعبير والتأثير كما يلتزم بقيم المجتمع الأردني ومقوماته الأساسية، فيما يعرضه على أبناء الأردن الذين يؤثر فيهم بعمق ويشكل أفكارهم، وبذلك فإنها مطالبة بحماية الآداب العامة والمحافظة على الأمن، والنظام ومصالح الدولة العليا، لذلك لا بد من خلق وعي رشيد متطور يقوم على مبادئ تحدد الغرض من الرقابة بحماية الآداب العامة، والمحافظة على الأمن، والنظام العام.

سمعة الدولة

ولما كان من بين الأغراض التي تهدف إليها التشريعات بحماية سمعة الدولة ومصالحها العليا، فإنه يجب وضع معايير محددة لهذه المصطلحات حتى لا تكون السلطة في تطبيقها استعمال سلطة تقديرية تتجاوز بها الحقوق والحريات الدستورية، وإن وضع استثناءات لها يجب تحديدها بقيود واضحة ومحددة حتى لا تتجاوز المقومات الأساسية الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية، التي يحميها الدستور والتي تعلو وتسمو دائماً في مجال الرعاية والحماية على ما تتطلبه الحرية الفردية الخاصة، إذ لا ريب في أنه من المبادئ الرئيسة التي تقوم عليها الدول المتحضرة، تضامن الأفراد وتماسكهم لتحقيق الغايات والمصالح العامة التي يستهدفونها في نطاق إقليم الدولة.

ولا شك أن مقتضى التفسير المتناسق للنصوص يتطلب القول بأن تلك الظروف الجديدة، تتحدد من منظور أوساط الناس في ضوء القيم الخلقية التي لا تقوم على معايير فرضية، وإنما يحكمها الواقع الاجتماعي والمكاني والزماني، والذي تتحدد على أساسه المفاهيم الاجتماعية القائمة والتي لا يحكمها معيار عام يسعها في تطبيقاتها، وإنما تتغاير ضوابطها بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ومن ثم كان لازماً لمواجهة تلك الأوضاع والمعايير المتغيرة منح المشرع قدراً من الصلاحيات في إطار سلطته في مجال تنظيم الحقوق والحريات، سواء تلك التي كفلها الدستور أو قررها القانون، لمواجهة تلك الظروف والأوضاع المتغيرة، تحت رقابة القضاء المختص، الذي يعطي لصاحب الشأن حق الطعن على أي قرار ينتهك الحقوق والحريات طبقًا للقواعد العامة أمام القاضي الطبيعي، وهو الحق الذي كفله الدستور للكافة، باعتباره ضمانة أساسية للحقوق والحريات، بما يمكن القضاء من التدخل لمواجهة تغير الظروف التي قامت خلالها وبسببها لمواجهة ما استجد منها، واستجابة لها، وفي حدود ما تقتضيه الضرورة الناشئة عنها، دون أن يعد ذلك مساساً بحرية الفكر والرأي في حدود الحماية الدستورية لها، وضمن الواقع الاجتماعي والمكاني والزماني والقانوني والسياسي الذي اقتضاها وعبر عنها، بمعنى أن ينظم هذه الحقوق والحريات بدون أن يحددها بقيود تتعارض مع مضمونها الدستوري.

دلالات
الأكثر قراءة
00:00:00