موسم التلبية لبيك اللهم لبيك

الصورة
جبل عرفات
جبل عرفات
المصدر

موسم التلبية، من لطف الله تعالى بجموع السائرين إليه، تتابع مواسم الطاعات عليهم، فما أن يودعوا موسماً من مواسم الإيمان، حتى يستقبلوا موسماً آخر، يتهيؤون له نفوساً وأرواحاً، فيشدون فيه مئزراً، ويحيون فيه ليلاً، ويوقظون فيه أهلاً.

بالأمس القريب ودّعنا موسماً إيمانياً عظيماً، وها نحن اليوم نستقبل موسماً آخر، فمن لطف الله سبحانه بركب السائرين، أنه تابع عليهم مواسمه، ونوَّع لهم فيها طاعته، وكأنه بهذا يشدهم إليه، بين الفينة والأخرى، فيحيي فيها قلوبهم، ويجدد إيمانهم، ويقوي مسيرهم.

وكأن موسم الأمس هيأنا قلوباً، وزكانا نفوساً، وسما بنا أرواحاً، وطهرنا جوارح لاستقبال موسم اليوم، موسم التلبية، والتجرد، موسم التلبية والإقبال على الله، موسم التلبية والزهد بالدنيا، موسم تلبية نداء الآخرة، بخلع لباس الدنيا، والتخفف من أحمالها ومظاهرها وزينتها بالإحرام، والتلبية والطواف والسعي ورمي الجمرات.. إلخ.

نعم، موسم اليوم، موسم الروح الملبية، الروح السامية، الروح المقبلة، الروح الساجدة العابدة.

متطلب مواسم الإيمان

ومتطلب هذه المواسم أيها السادة السائرون، تهيؤ واستعداد، فلا يليق بسائر إلى مولاه سبحانه أن تدهمه هذه المواسم وهو في غفلة ولهو؛ لأن هذه المواسم أجل من أن تكون لغير طالبيها، أو الواقفين في بابها خاطبين ودها ووصالها.. نعم، إنها حكر على من استيقظ لاستقبالها قلبه، وصحت في ظلالها روحه، وتهيأت في رحابها نفسه.

فلا يغرف منها، ولا يطلع على أسرارها، إلا من هيأ لاستقبالها روحه، لأنها مواسم الروح بلا منازع، فمن استقبلها جسداً لا روح فيه، فأنى له أن يجني من ثمارها؟ أو يغرف من خيراتها؟ أو يكون أهلاً للاطلاع على أسرارها؟ أو يصيب شيئاً من أنوارها؟؟

السائر في مواسم الطاعة:

والسائر في هذه المواسم أحد ثلاثة:

الأول: غافل مفرط: قد ظلم نفسه.

الثاني: مقصر مهمل: اقتصد وبخل على نفسه.

الثالث: منافس مشمر، قد سبق بالخيرات بفضل الله وتوفيقه.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر : 32]

فاختر لمسيرك – أخي في الله- مسير الغافلين المفرطين، أو مسير المقصرين المهملين، أو مسير السابقين المنافسين.

تتابع المواسم 

إن تتابع المواسم عليك- أيها السائر الكريم- يعني أن الله سبحانه:

  • يمنحك الفرصة تلو الفرصة، حتى يقيم عليك الحجة البالغة.. فلم يأخذك بغتة، فكم من رمضان مرَّ بك لا هياً عابثاً.. وكم.. وكم... فتتابع المواسم فرص متتابعة تذكرك بالعودة والتوبة والإنابة.. إنها فرصة للغافل حتى يتنبه، وللمقصر حتى يجد ويجتهد، وللسابق المنافس حتى يحصل المزيد، ويحقق ما يريد..
  • كما أن تتابعها يوقظ في قلبك لسان ( لبيك).. والمقصود في المسير كله قلبك، إيقاظ القلب، إحياء لسان القلب.. فيكون قلبك الذي يدعو ويرجو، قلبك الذي يهتف ويلبي، قلبك الذي يركع ويسجد، قلبك الذي يطمئن ويبكي، قلبك الذي يطوف ويسعى.. لأن المسير إليه مسير قلوب.

إلى ماذا يدعونا الله في هذه المواسم؟

فالله سبحانه من خلال هذه المواسم الإيمانية العظيمة يدعوك، ويجدد دعوتك، وهو الذي ما زال يدعوك، منذ أن كنت ووجدت، ويهتف بك ويناديك.. علّك تتذكر، علك تؤوب، علك ترجع وتتوب.. فقبل أن تناديه ناداك.. على ما فيك من نقص وتقصير، وعلى ما كان منك من إساءة ومعصية.. واجتراح للذنوب والسيئات،  {۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]

وفي بعض الآثار أن الله – تعالى- يقول: أيها العبد إذا تبت ثم نقضت فلا تستح أن ترجع إلينا ثانياً، وإذا نقضت ثانياً فلا يمنعك الحياء أن تأتينا ثالثاً، وإذا نقضت ثالثاً فارجع إلينا رابعاً، فأنا الجواد الذي لا أبخل، وأنا الحليم الذي لا أعجل، وأنا الذي أستر على العاصي، وأقبل التائبين، وأعفو عن الخاطئين، وأرحم النادمين، وأنا أرحم الراحمين، من ذا الذي أتى إلى بابنا فرددناه؟ من ذا الذي لجأ إلى جنابنا فطردناه؟ من ذا الذي تاب إلينا وما قبلناه؟ من ذا الذي طلب منا وما أعطيناه؟ من ذا الذي استقال من ذنبه فما غفرنا له؟ أنا الذي أغفر الذنوب، وأستر العيوب، وأغيث المكروب، وأرحم الباكي الندوب( كثير البكاء)، وأنا علام الغيوب، يا عبدي قف على بابي أكتبك مع أحبابي، تمتع في الأسحار بخطابي، أجعلك من طلابي، لذ بحضرة جنابي أسقك من لذيذ شرابي، اهجر الأغيار ( غير الله وسواه) والزم الافتقار، وناد في الأسحار، بلسان الذلة والانكسار.

وأخبرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ربه – تعالى- فيما يرويه عنه أنس- رضي الله عنه- أن الله – تعالى- يقول:" يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".

 ذكر في بعض الآثار، أن شاباً من بني إسرائيل، عبد الله- تعالى- عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم أنه نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك، فقال: إلهي، أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإذا رجعت إليك، فهل تقبلني؟ فسمع صوتاً يتردد في الأنحاء: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فما تركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.

وإذا قال العبد: إلهي، أنا أسأت.. قال تعالى: وأنا سترت. وإذا قال العبد: إلهي، أنا ندمت. قال تعالى: وأنا علمت. فإذا قال العبد: إلهي رجعت. قال الرب سبحانه: وأنا قبلت.

المواسم الإيمانية فرصة للاقتراب من الله

تشكل هذه المواسم الإيمانية سلماً عظيماً للاقتراب من المولى سبحانه وتعالى فبعد أن دعاك مولاك- سبحانه- وناداك، وفتح لك باب التوبة والرجاء.. أخبرك بقربه منك {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186]

وبعد أن أعلمك بقربه منك، يسمعك ويراك، دعاك للاقتراب منه، {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩} [العلق : 19]

فأنت مدعو للاقتراب من مولاك، وقد بيَّن لك سبيل القرب، مخالفة من يعصي أمره، وكثرة السجود بين يديه سبحانه. واستغلال هذه المواسم الإيمانية من أعظم ما يحل به السائر العابد مقام القرب من الله – سبحانه وتعالى-.. والغفلة عن هذه المواسم تزيد السائر بعداً فوق بُعده.

وقد ذهب بعض العارفين بالله سبحانه إلى القول: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وحين سئل عنها، قال: إنها جنة القرب من الله- تعالى-.. وفي الحقيقة لا يحلو المسير إلا بقربه، ولا تطيب العبادة إلا بقربه.. ولا تطمئن القلوب، أو تأنس الأرواح، أو تسمو النفوس إلا بقربه.

وقد ذهب بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن : 46] إلى القول: بأنهما جنة في الدنيا هي جنة القرب، وجنة في الآخرة.

موسم التلبية

من أعظم المواسم الإيمانية التي تمر بالعبد السائر إلى الله – تعالى- موسم التلبية، موسم الذكر والمناجاة، موسم الزهد والتجرد، موسم الجد والمجاهدة، موسم الإقبال على الله- تعالى-، أقسم الله به، تعظيماً لشأنه، وتعزيزاً لمكانته، وتوكيداً عليها في قلوب السائرين الصادقين إلى الله سبحانه وتعالى بقوله: والفجر وليال عشر والشفع والوتر الفجر: ١ - ٣

إنه موسم الذكر والاستغفار والدعاء والمناجاة بامتياز، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} البقرة: ١٩٨ - ٢٠١

{۞ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة : 203]

أخبرنا الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم- عن هذه المكانة العظيمة لهذا الموسم الإيماني الكبير، بقوله:" ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام ( يعني أيام العشر) ، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

وفي حديث آخر:" ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".

وهذا في الحقيقة مؤشر واضح من سيدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحبب فيه الأمة كلها بهذا الموسم العظيم، حتى تنشغل بالطاعة والعبادة، انسجاماً مع تعظيم شعائر الله، التي هي من تقوى القلوب.. ففيه دلالة أن هذا الموسم ليس مقصوراً على من قصد البيت حاجاً، بل الأمر منوط بكل أفراد الأمة، تشترك بالتسبيح والتهليل والتكبير تقديساً وتعظيماً وتنزيهاً لله رب العالمين.. فهو موسم التلبية والإقبال على الله.

وإذا علمت عظيم فضل الجهاد في سبيل الله، وأجر المجاهد، لعلمت عظيم فضل هذه الأيام، وعلو شأنها ومكانة العمل الصالح فيها عند الله سبحانه فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوه عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد".

أخي في الله، السائر الحبيب، إن لم تقو على الصيام في هذا الموسم العظيم، فلا أقل من أن تنشغل فيها بذكر الله تبارك وتعالى.

وأن تحفظ لسانك بحبسه على ذكر الله وتعظيمه وتقديسه.. أسأل الله أن يبارك لنا في موسمنا وأن يتقبله منا.. آمين.

دلالات
الأكثر قراءة
00:00:00