اختصاصية علم نفس ومرشدة في وزارة التربية والتعليم
هو لا يخطئ
هو لا يخطئ .. ظاهرة
بقلم : د. ميرفت سرحان
كان شادي ذو الأربعة أعوام يلعب في الأغراض الموجودة داخل درج المطبخ .. وعندما حضرت والدته وشاهدت المنظر أحست بالارتباك، وشعرت بالغضب .. ثم أخذت تصرخ في وجه الطفل، وتقول له: ابتعد من هنا يا شادي، لا تلمس السكاكين، اترك كل شيء، واخرج من هنا .. والطفل الصغير يضحك، ويلعب ولا يكترث لما تقوله والدته .. أعادت الأم تعليماتها للطفل، ولكنه لم ينفذ أوامرها .. ففكرت أنها لو تحدثت إليه بطريقه أخرى، ربما ينفذ مطالبها .. فقالت: "مش حلوين هدول اتركهم، هلا بعطيك ألعاب أحلى" .. قال الطفل: "لا، كتير حلو، أنا بدي هدول" .. واستمر المشهد بين الطفل وأمه لعدة دقائق .. وترك الطفل السكاكين مجبرًا، مع أنه لايزال مصرًا أن اللعب فيهم "كتير حلو" ..
كنت مرةً، أجلس مع العائلة في أحد المطاعم .. وكان زوجان يجلسان في الطاولة المجاورة لنا .. ترك الرجل زوجته، وبدأ يمشي بعيدًا عن الضجيج ليكمل مكالمة هاتفية يبدو أنها مهمة .. في هذه الأثناء كانت الزوجة منشغلة جدًا في هاتفها، الذي سقط من يدها أرضًا .. نزلت لتلتقطه .. وعندما رفعت جسدها كان النادل قد أحضر الطلبات الخاصة بهما، فإذا بها ترتطم به، لتقع "الصينية" وكل ما عليها على الأرض .. وتتلوث ثياب السيدة .. غضبت، واحمر وجهها، وأخذت تصرخ بالنادل، وتشتم، وتلعن .. قال النادل: ولكن يا سيدتي أنتِ من ارتطم بي .. ارتفع صوت المرأة أكثر .. واستمرت في الشتم أكثر .. جاء الزوج، وعندما رأى المشهد بدأ يعنف النادل أكثر، حتى دون أن يسأل عما جرى، وكيف حصل .. أراد أحد الأشخاص أن يوضح للزوج أن زوجته هي المخطئة، غضب أكثر وحاول أن يضرب الرجل .. واستمر المشهد لعدة دقائق، ثم انتهى .. ولا تزال الزوجة مصرة أنها ليست مخطئة ..
بالنسبة للطفل شادي وأقرانه؛ فإن أحد الخصائص النمائية لمرحلتهم العمرية هذه، تبرر إصرارهم على رأيهم وإن كان خاطئًا، لعدم قدرتهم على رؤية الأحداث إلا من منظورهم الخاص ..
أما بالنسبة للسيدة وزوجها وأمثالهم، فأعتقد أنه ضرب من ضروب الغرور ممزوج بعناد تمكن منهم، فجعلهم لا يرون شيئًا، ولا يشاهدون أحدًا، إلا بمنظورهم الخاص .. يذكرني حالهم بتلك اللعبة التي يطلب فيها من أحد الأشخاص أن يغطي عينيه بشريط، ثم عليه أن يجد شيئًا معينًا، أو شخصًا ما .. ولذلك، يقوم باستخدام يديه ليتحسس الأشياء من حوله، ويركز بسمعه ليتتبع الصوت الذي يدله على مكان الشيء الذي يتبعه .. ولأنه لا يراهم .. فهو يتصرف بهمجية؛ كأنه يمسك بشيء ثم يرميه، حتى لو كان قابلًا للكسر .. أو أن يرتطم بأحدهم، ويبتعد عنه دون أن يهتم بتألمه .. أو يدوس قدم الثاني، ويتركه حتى لو تأذت القدم .. وربما يقع آخر، ولا يبالي بما حصل معه .. كل هذا مباح .. فهو يلعب .. وطبعًا لن يعتذر من أحدهم أو يتأسف للآخر .. إذ كيف يعتذر لمن لا يراهم؟؟!
هذا يشبه حال عناد المتكبر المتعجرف، الذي تغافل عن كل الحقائق، إلا ما يوافق رأيه، حتى لو عارض الحق، وجاوز الصواب .. ولا يسمع من الأصوات إلا ما يدله على هدفه، حتى لو اضطر لأن يصطدم بكل من حوله .. ويسقط أرضًا أي شيءٍ لا يحقق غايته .. ولكن، ليس لأنه أغمض عينيه .. بل لأنه أعمى بصيرة .. وليس لعبًا هذه المرة .. بل بنية موجهة وقصد مبيت .. معتقدًا بذلك أنه أكثر فهمًا من كل شخص حوله .. وأنه لا يخطئ في حق غيره .. طبعًا إلا مع من تفوق عليه بسلطته ..
من وجهة نظري .. أرى أن غروره لا يدل إلا على جهله .. وأن مقدار علمه، يساوي مدى رؤيته بعدما لف الشريط حول عينيه ..
يقول الله تبارك وتعالى: "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَهٌ* وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ" .. (القيامة: ١٥، ١٦) ..