وجهة نظر.. "وتواصوا بالحق.. وتواصوا بالصبر"

الصورة
Photo by Diego Jimenez on Unsplash
Photo by Diego Jimenez on Unsplash
آخر تحديث

(وتواصوا بالحق.. وتواصوا بالصبر)

ارتأيت أن أبدأ الحديث معكم سادتي الأفاضل من تعريف بسيط ومختصر برحلتنا على متن السفينة "حسنى"، فمعرفة غاية الرحلة وخارطة طريقها مهم جدًا لضمان الاستمتاع بها وتحقيق أهدافها، فـ "حسنى" تسعى للوصول إلى مجتمع متمكن، يملك قراره و قادر على إدارة شؤونه وتجاوز التحديات التي تواجهه بإيجابية و استدامة واقتدار نابع من الثقة بعون الله ونصره.

غايتنا تكمن في تسليط الضوء على مفاهيم ووجهات نظر نعتقد أن تبنّيها يساعد في دفع حركة الإصلاح والبناء، التي نسعى من خلالها تحقيق الهدف الأساس (من وجهة نظرنا)، لوجودنا وهو إحداث الأثر الإيجابي في المجتمع ونشر الخير والمحبة والفضيلة والسلام في كل أنحاء البسيطة. (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين)

و لعله ليس مصادفةً ولا ترفًا فكريًا أن نبتدىء سلسلة وجهات نظر بهذا المقطع من سورة العصر, هذه السورة التي "من وجهة نظري" تلخص مبادئ النهج السليم المؤدي إلى السعادة والفلاح وتحقيق الأهداف السامية.

فالجميع يتجه نحو الخسارة، إلا الذين آمنَت قلوبهم برسالة السماء وصدّقتها جوارحهم وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. و لنا هنا وقفة مع "الحق" الذي لطالما التبس علينا مفهومه فخلطناه مع مصطلح.. "وجهة النظر".. كيف ذلك؟!

دعونا أولاً نراجع أوليات فهمنا لمعنى كلمة "حق" و معنى وجهة نظر.

فالحق اصطلاحًا هو الشيء المثبت وجوده بالدليل والبرهان القاطع، كوجود الأشياء، التي نتلمسها بحواسنا، أو القوانين والظواهر التي تعززها البراهين والأدلة العلمية والرياضية، فقوانين الجاذبية حق والموت حق ودوران القمر حول الأرض في مدارات معروفة حق.. و غير ذلك من المعلومات أو "الحقائق العلمية" التي لا يختلف عليها البشر بسبب أثرها المادي والفيزيائي الملموس.

أما أن نقول : "الله حق" و "رسالة نبينا محمد ص حق" و "الجنة حق" و "النار حق" وغيرها من الغيبيات (وهي مسلَّمات لنا ولمن يشاركنا عقيدة الإسلام)، فإن هذا الحق مقرون بإيمان مجموعة من البشر، فتحت قلوبها لتلقي الأدلة والبراهين العقلية على ثبوت هذه الحقائق، ولكنها تعتبر وجهات نظر بالنسبة لمجاميع أخرى من البشر الذين وجدوا أنفسهم في زاوية أخرى لم تمكنهم من تلقي تلك الحقائق أو فهمها بشكل مماثل.

أما وجهة النظر فهي الزاوية التي نرى منها الأشياء والظواهر والأحداث والتي نقيم من خلالها الآراء والمواقف، و هذه مسألة نسبية مطلقًا تعتمد على طريقة النظر وحال الناظر وعلاقته بالمنظور وأمور أخرى كثيرة.

 فالأفريقي الذي يعيش في الغابة يرى بعض الحيوانات مصدرًا لرزقه ورغد عيشه، بينما نراها نحن وحوشًا كاسرة وخطرًا كبيرًا يستدعي الاجتثاث، قد يكون هطول الغيث غاية أمل المزارع الذي ينتظر نعمة الله لسقي مزروعاته العطشى، بينما يكون هطول هذا المطر مصيبة للمقاول العاكف على صبِّ عقدة باطون كبيرة ويخشى من المطر أن يخرب عمله ويؤذيه، قد تلتقي في طريقك بإنسان معين ييسر الله أمره في قضاء خدمة أو إسداء معروف لك فتحكم عليه بالخيرية والصلاح، ثم يأتي شخص آخر فيلتقي نفس هذا الإنسان في ظرف آخر يكون فيه مضغوطًا وغير قادر على المساعدة فينعته الشخص الثاني بالسوء واللامبالاة.

في الحروب و الصراعات، تجد كل طرف يسمي الطرف الآخر عدوًا باغيًا ويعزّي قتلاه بالشهادة والكرامة، وكم من مستعمرٍ في التأريخ اعتبر نفسه فاتحًا ومحررًا، بينما اعتبره الطرف الآخر عدوًا غاشمًا محتلا! كل هذا يعتبر وجهات نظر تختلف و تتعدد ولا يشترط لها، بل لا يجوز أن نحصرها في ثنائيات متعاكسة (أبيض أسود، جيد سيء، شجاع وجبان, بخيل وسخي , عدو صديق ... إلخ)، لأن زاوية النظر ممكن أن تشمل جوانب ونهايات وألوان أخرى متعددة، إذا أستطعنا الإحاطة بها نكون قد وفرنا فرصة للتقرب من "حقيقة" الأشياء.

و لعلي أجزم بأن من أكبر العوائق التي يواجهها الفكر البشري، خصوصًا في المجتمعات البعيدة عن المعرفة، هو الخلط بين وجهة النظر وبين الحق، فنحن نعتبر (ما نراه) من زاويتنا ( حقًا تامًا لا جدال فيه ونعتبر قناعتنا أو رؤيتنا العقلية أو العاطفية أو المصلحية دليلًا كافيًا وبرهانًا قاطعًا على أحقيّة ما نرى ونعتقد، في المقابل نجد المجتمعات الأكثر تحضرًا و تقديرًا للمعرفة ينأون بأنفسهم عن هذا الفهم الخاطئ لكلمة الحق، لأنهم و من خلال تطور المدارك المعرفية لديهم، استشعروا الفرق الشاسع بين الحق وبين وجهة النظر أو الرأي النسبي الذي لا يجوز أن ينيب عن الحق، إلا من خلال آليات محددة أهمها الشورى والاتفاق.

بعد كل هذا التمهيد أجد الطريق سالكًا مع أحبتي لكي نبدأ الرحلة في مسلسل "وجهة نظر"  لمسائل متعددة أنظر لها كعوالق تعرقل حركة سفينة الإصلاح التي نسعى جميعنا لدفعها نحو غايتها من أجل مستقبل مشرق لأبنائنا وأحفادنا و البشرية جمعاء، هذه العوالق متشابكة وتحتاج إلى مشارط ناعمة لتفكيكها أو تفتيت نسيجها بشكل يجنِّبنا أذية السفينة أو خرقها، فأفضل الإصلاح هو الإصلاح الناعم الهادئ العميق الأثر والطويل الأمد والذي يحتاج منا لحلم و رويَّةٍ و .. صبر !! نعم صبر !! .. أليس هذا ما خُتمت به السورة الكريمة (وتواصوا بالصبر) ؟! .. اللهم اكتبنا من خاصتك المتواصين بالحق و الصبر..

فبسم الله نبدأ وعلى بركة الله نُبحِر وعلى المحبّة و التفاهم والسلام نلتقي.

الدكتور ليث أزهر

مواطن عربي يقيم على أرض الأردن، اختصاصه البناء وإدارة المشاريع

 

الأكثر قراءة
00:00:00