واصل جيش الاحتلال عدوانه على مدن الضفة الغربية متسببا بارتقاء 9 شهداء منذ الثلاثاء الماضي، وسط عمليات اعتقالات وتدمير للبنى التحتية. 9 شهداء
التخطيط الحضري كآلية للسيطرة على المدن الفلسطينية (1)
هذه المادة جزء من سلسلة تبين استخدام الاحتلال للتخطيط الحضري في سلب الفلسطيني مدينته
سعت إسرائيل منذ نشأتها كقوة احتلال استعماري في الأراضي الفلسطينية، إلى إعادة تخطيط المدن والقرى وإعادة إنتاج حيز حضري يضع الفلسطيني أمام عدة أخطار تستهدف حياته وأمنه ومسكنه، بالتالي فإنها تقلص -بشكل مباشر- فرص وصوله إلى الموارد الطبيعية والخدمات، وتجعل من حياته اليومية جحيما. فكما يقول أستاذ التخطيط الحضري في جامعة حيفا راسم خمايسي، فإن الاحتلال يستخدم التخطيط الحضري "كآلية للسيطرة على الأرض وتقسيم الموارد، وحصر/ تمكين الامتداد العمراني وفق اعتبارات عرقية".
وانطلاقا من هذا المفهوم، نستعرض في هذه المادة جزءا من أبرز عمليات إعادة التخطيط الحضري والتضييق على الفلسطينيين في يافا وحيفا وأريحا، والتي شهدت تغييرا جوهريا في تخطيط المدن وإحلالا للمستوطنين مكان أصحاب الأرض سواء من خلال القانون أو الآلية العسكرية.
أبرز عمليات التخطيط الحضري والتضييق التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي
فإلى جانب قيام الاحتلال بعمليات عسكرية موسعة واجتياحات تهدف إلى جرف البنية التحتية للمدن وهدمها، فإنه يقونن الاستيلاء على مدننا الفلسطينية عبر مصادرة أراضيها من أصحابها، مستفيدا في ذلك من قوانين بريطانية وعثمانية كقانون "أملاك الغائبين" و"الأرض البور"، كما أنه يصدر وبشكل ممنهج ومتكرر إنذارات هدم وإخلاء بحجج عدم الترخيص، ساعيا في ذلك كله إلى تهويد المدن الفلسطينية وكسر ارتباط الفلسطيني بأرضه وتاريخه.
يافا: المالك المستأجر
منذ صدور قرار التقسيم 181 الصادر من الأمم المتحدة عام 1948 والرامي إلى تقسيم فلسطين إلى دولة عبرية وأخرى عربية، كانت مدينة يافا الساحلية، والواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، قد ضمت ضمن الدولة العربية. إلا أن ذلك بالطبع لم يكبح الأطماع الاستعمارية والاحتلالية الإسرائيلية التي كانت -في وقت سابق لهذا القرار- قد أقامت ما يعرف اليوم بـ "تل أبيب" المقامة على القرى المهجر أهلها قسرا.
نص قرار التقسيم: "يمتد الجزء اليهودي من السهل الساحلي من نقطة بين ميناء القلاع والنبي يونس في مقاطعة غزة، ويضم مدينتي حيفا وتل أبيب تاركا يافا قطاعا تابعا للدولة العربية. وتتبع الحدود الشرقية للدولة اليهودية الحدود التي وصفت فيما يتصل بالدولة العربية".
فكيف ساهم التخطيط الحضري بسلب مدينة يافا؟
أقيمت "تل أبيب" بين عامي 1909-1910 وكانت حيا يهوديا في يافا، إلا أن الحي توسع بفعل عمليات التهجير والتجريف لاحقا إبان الاحتلال عام 1948 وذلك على حساب أحياء المدينة وقراها العربية ليصل عدد القرى المهجرة إلى 26 قرية.
بحلول عام النكبة، كان قد هجر 96% من أهالي يافا وحوصر من بقي منهم في حي صغير يدعى العجمي. يقول الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر سطل بأن الاحتلال عام 1948 حاصر الحي بأسلاك شائكة، وأجبر الفلسطينيين على توقيع أوراق كتبت بالعِبرية -جهل السكان حينها محتواها- تنص على أنهم ليسوا ملاك البيوت التي يسكنونها، بل هم "مستأجرون محميون" فيها. وبمقتضى هذه الخديعة القانونية يدفع الفلسطينيون إيجارات منازلهم التي يسكنونها منذ 70 عاما للشركة الاستثمارية التي سطت على منازلهم وحولتهم من خلال تلك الورقة من ملاك إلى مستأجرين لديها.
أما الأحياء العربية الأخرى التي هجر أهلها بالكامل، فعمد الاحتلال إلى محوها عن بكرة أبيها، وأقام على أنقاضها حدائق ومتنزهات وبيوتا للمستوطنين اليهود، كما استولى على المنازل التي ظلت قائمة ضمن ما يعرف بـ"أملاك الغائبين". وهو قانون تم سنُّهُ عام 1950 أي بعد النكبة، حيث أتاح للاحتلال الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين "الغائبين" حسب وصف سلطات الاحتلال لهم، وقد عرّفهم القانون بأنهم:
"كل من هجر أو نزح أو ترك حدود دولة إسرائيل حتى تشرين الثاني من عام 1947 خاصة على أثر الحرب يعرف بأنه غائب، وتعتبر كل أملاكه (يشمل الأراضي، والبيوت، وحسابات البنوك وغيرها) بمثابة أملاك غائبين، تنقل ملكيتها لدائرة أراضي إسرائيل، ويديرها من قبل الدولة".
مين حط السوق في مول مين طلّعنا من لبيوت؟مين قسّمها ومين أجّرنا ستوديو أصغر من تابوت؟
مين أجا من تل أبيب؟ قصدي، مين أجا من بولندا؟
مين عمّر ابراج قزاز وإحنا هدلنا البرندة؟
حيفا: محاصر في الخيال
عموم مدن الداخل الفلسطيني تمتلك تاريخا متشابها فيما يتعلق بتهجير أهلها قسرا ومحاصرة من تبقى منهم في أحياء ضيقة تفتقر إلى الخدمات وتعيق وصول أهلها في كثير من المرات إلى الموارد. فلم تكن حيفا الساحلية بعيدة عن ما حصل في يافا.
حيفا مدينة ساحلية جبلية مقامة على جبل الكرمل، وإبان الانتداب البريطاني كان لليهود حي منفصل داخل المدينة، وعشية إعلان الانتداب انسحاب قواته من فلسطين خرجت العصابات الإسرائيلية من هذا الحي واستخدمت قذائف الهاون والمدافع البريطانية في قصف منازل الفلسطينيين في المدينة.
ولعل أقسى ما عايشته ذاكرة الفلسطيني في حيفا هي مجزرة قرية الطنطورة الساحلية الواقعة جنوب المدينة، والتي نفذتها العصابات الصهيونية نواة جيش الاحتلال بعد إعلان قيام دولة إسرائيل. يصف ناجون المجزرة كأنها يوم الحشر، حيث جمع جيش الاحتلال الناس على الساحل، وأجبرهم على حفر خنادق بأيديهم لتصبح قبورا لأهل القرية المقاومين، ثم رشقتهم بنادق الاحتلال بالرصاص، لتقوم دولة الاحتلال بعدها بردم التراب عليهم وتقيم فوق مسرح الجريمة موقفا للسيارات يتبع للساحل المحتل. كما بنت مستوطنة مكان القرية الساحلية، لتسمي خرائط "غوغل" قرية الطنطورة بمستوطنة "نحشوليم". فلم يبقى من القرية الساحلية إلا مقام وقلعة وبئر قديمة وبضعة منازل.
أما المدينة حيفا، فشهدت واحدة من أبشع عمليات التهجير والتطهير العرقي عام 1948 باستخدام التخطيط الحضري و الآلية العسكرية. فاستيطان اليهود بها كان جليا إبان الانتداب البريطاني، حيث قدمت إلى حيفا عائلات ألمانية يهودية استطونت أحياء في الأجزاء العلوية من جبل الكرمل، تبعتها جماعات وعائلات يهودية أخرى لتشكل ما نسبته 52% من سكان المدينة بحلول عام النكبة. فاستيطان العائلات اليهودية للمواقع العلوية والمرتفعة شكل تفوقا جغرافيا لهم على المقاومين الفلسطيين، حيث خرجت العصابات الصهيونية "الهاجانه" من هذه الأحياء باتجاه الأحياء العربية الواقعة على منحدرات المدينة الساحلية، لترميهم بالرصاص والمدافع وتدفع بهم نحو البحر. حوصرت العائلات الفلسطينية العربية بعد حرب دامية في المدينة فيما يعرف بـ شارع الملوك، والذي يعد نقطة التقاء رئيسية لأحياء المدينة، لتدفع بهم العصابات الصهيونية نحو البحر وعربات التهجير ويصبح كثير من أهالي حيفا لاجئين في لبنان ومخيم جنين.
وفي مثال آخر صارخ على استخدام التخطيط الحضري لاقتلاع الفلسطيني من أرضه، جرفت آليات الاحتلال العسكرية والإنشائية أحياء كثيرة في المدينة، وأقامت فوق أنقاضها منازلا للمستوطنين الجدد، كما أنها أطلقت أسماء عبرية على شوارع وأحياء المدينة في محاولات لطمس المعالم العربية فيها ولفصل ارتباط من تبقى من أهالي حيفا بتاريخ مدينتهم. إلا أنه ورغم عمليات التهويد للأحياء العربية ومحاولات الطمس، تقف أبنية عتيقة في حيفا تقاوم هذه الممارسات، كجامع النصر الكبير أو جامع الجرين والذي بني عام 1775م، وجامع الاستقلال الذي شيّد عام 1924 وتولى خدمته الشهيد عز الدين القسّام، حيث شكل انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار البريطاني. كما بقيت "كنيسة السيدة" قائمة رغم هدم سور المدينة المحاذي لها، والتي لجأ كثير من الأهالي إليها بعد أن أمطرتهم العصابات الصهيونية بالرصاص.
يشكل العرب اليوم في حيفا ما نسبته 11.7% من السكان حسب بيانات دائرة الإحصاء لعام 2019. ويعيش كثير منهم في أحياء تفتقر إلى الخدمات ومعزولة في أبنيتها وشوارعها عن الأحياء اليهودية. وحسب الباحثة الفلسطينية همت زعبي، فإن سياسات الخصخصة تنامت في مدن الداخل الفلسطيني لتضيق الخناق على الفلسطينيين وتسهم في إحلال الهيود مكانهم في منازلهم. فعمدت البلدية الاستعمارية في حيفا إلى تبني مشاريع ترميم وتطوير في بعض من الأحياء العربية بهدف عرضها للبيع في السوق الحرة، الأمر الذي زاد من ثمن العقارات ودفع الفلسطينيين الفقراء لترك أحيائهم لمصلحة إسرائيليين يهود.
وعلى الرغم من السياسات الرامية إلى محو المكان من الأرض ومن ذاكرة الفلسطيني عبر إعادة صياغة الحيز الحضري في المدن المحتلة، إلا أن الفلسطيني يحفظ جغرافية المكان وتاريخه وحكاياه وتفاصيله. فكُتبت في حيفا روايات جعلت من المدينة وأحيائها وقراها المهجرة حاضرة في وجدان الفلسطيني، فرواية عائد إلى حيفا، للشهيد الراحل غسان كنفاني، وصفت المدينة وأحياءها وتفاصيل عام النكبة وتهجير أهلها بشكل دقيق ومؤلم، كما أن رواية الطنطورية للراحلة رضوى عاشور والمستوحاة من أحداث مذبحة الطنطورة، أخذت القارئ إلى ما بعد احتلال المدينة، ليتتبع ما عايشته العائلات الفلسطينية من تبعات اللجوء في لبنان، موثقة في الرواية أسماء وشخوصا ومجازر وأحداث لا ينبغي أن تمحى من ذاكرة الفلسطيني.
أريحا: مزارعون بلا أرض
تقع مدينة أريحا شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى الشريط الحدودي مع الأردن الذي تشترك معه في منطقة الأغوار الشمالية والبحر الميت، وتبلغ مساحتها 593 كم2. تعرضت المدينة عام 1948 لقصف عنيف بقذائف الهاون من قبل العصابات الإسرائيلية، حيث دمرت أجزاء كبيرة من المنازل وهُجر أهلها قسرا إلى الأردن ولبنان، إلا أن الأردن استطاع تحريرها وضمها لإدارته مع الضفة الغربية والقدس، إلى حين احتلالها على يد القوات الإسرائيلية عام 1967 خلال ما يعرف بحرب الأيام الستة. قسمت المدينة بعدها إلى 3 مناطق (أ، ب، جـ) وحوصر الفلسطينيون في مناطق (أ) والتي تشكل ما نسبته 12% من مساحة المدينة.
يتخذ الاحتلال من مدينة أريحا موقعا لتشييد ثكناته ومخيماته العسكرية، إلى جانب إقامة مستوطنات على أراضي المزارعين الفلسطينيين، إلا أن الاحتلال يحاصرهم في أعمالهم ومهنهم ويمنعهم من زراعة أراضيهم بحجة أنها تقع على مناطق حدودية.
وعلى عكس يافا وحيفا، فإن أريحا لا تعتبر مدينة مختلطة، فيعترف القانون الدولي بحق الفلسطينيين فيها ويعتبر وجود المستوطنات فيها غير شرعيا. حيث أحال الاحتلال إدارة المدينة إلى السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو عام 1994، إلا أنه يديرها أمنيا ويمنع المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، ثم يصادرها مستفيدا من قوانين عثمانية سابقة كقانون "الأرض البور" الذي أُريد له في وقتها أن يكون في مصلحة الأرض والمزارع. إلا أن الاحتلال عمد إلى إبقائه للاستفادة منه ضمن سياساته الاستعمارية والعنصرية. فمن خلال هذا القانون يسلب الاحتلال الأراضي الزراعية من الفلسطينيين، وإضافة إلى ذلك يصادر الاحتلال الأراضي الزراعية المحاذية للحدود الأردنية بحجج أمنية، ويتحكم في مصادر المياه ويمنعها عنهم.
لا تتوقف بالطبع ممارسات الاحتلال في محاصرة الفلسطينيين في أريحا عند مصادرة أراضيهم وعرقلة وصولهم إليها. بحسب مركز المعلومات الوطني التابع لوكالة وفا الفلسطينية، عمدت سلطات الاحتلال ومنذ عام 1967 إلى عزل أريحا عن الجسم الفلسطيني وباقي مناطق وأبناء الضفة الغربية المحتلة. وكان من أبرز هذه الممارسات إصدار تصاريح خاصة لأهل الأغوار بالدخول إليها والخروج منها ومنع بقية الفلسطينيين من الدخول، وهذا بالطبع خنق الاقتصاد الفلسطيني في أريحا وعرقل حركة السياحة الداخلية. إضافة إلى ذلك، فإن الاحتلال منع أي أعمال بناء وإعمار في جميع قرى الأغوار التابعة للمدينة.
فمن خلال هذه الممارسات، يعبث الاحتلال بسلطة الفلسطيني على أرضه مستخدما التخطيط الحضري فوجود المستوطنات والثكنات العسكرية يغير من وجه المدينة ويجعل من وصول الفلسطينيين فيها إلى مواردهم محدودا جدا.