الليرة اللبنانية أزمة تنذر بانهيار الدولة

الصورة
الليرة اللبنانية
الليرة اللبنانية

مع نهاية العام 2020 أقر البرلمان اللبناني تجميد قانون عمره يزيد عن 64 عاما والمعروف باسم قانون "السرّ المصرفي"، الذي أقر عام 1956، ويتحدث عن صعوبة الكشف عن المعلومات المصرفية لأية جهة إلا بحالات خاصة جدا.

وبفضل هذا القانون احتل لبنان سمعة جيدة في الأوساط المصرفية، لأنه أدى إلى الاستقرار المالي وزيادة حجم الودائع الكبير في لبنان، خاصة من دول الخليج بعد أن أصبح لديه عائدات "دولارية" عالية من ثورة النفط،  وكان الكثير من الخبراء يتوقعون أن يكون فعليا لبنان هو بنك العرب.

كان لبنان يسير في الاتجاه الصحيح حتى بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وبدون أي عجز بالموازنة العامة، وهذا بفضل ديناميكية الاقتصاد وتنوع مصادره مثل السياحة والزراعة، والأهم القطاع المالي المصرفي وأبرزه البنوك ليصل عددها في عام 1962 إلى 58 بنكا مرخصا، لعدد سكان لم يتجاوز مليوني نسمة في ذلك الوقت، وهذا مؤشر على تركيز اللبنانيين بالقطاع المصرفي في تلك الحقبة.

ما بعد الحرب الأهلية

بعد انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت لأكثر من 15 عاما وتحديدا في العام 1989، حيث اجتمع الفرقاء ليخرجوا ب "اتفاق الطائف "، الذي أنهى الحرب الأهلية، لكن الضحية الأبرز من هذا الاقتتال هو الاقتصاد اللبناني، الذي انهار من كل النواحي حيث تضاعف سعر الليرة اللبنانية خلال الحرب من 2.75 ليرة للدولار إلى 1700 ليرة في عام 1992، وارتفع التضخم وزادت معدلات البطالة ، والأهم هو دخول نادي المقرضين الذي أدخله جهنم، لكن مع كل هذه الكوارث كان وضع لبنان الاقتصادي بعد الحرب أفضل بكثير حيث لم تتجاوز مديونيته 3.6 مليار دولار عام 1990.

وبعد انتهاء الحرب كانت ديون لبنان نوعا ما مقبولة (3.6 مليار )، وهذا الرقم كان يمكن التعامل معه في تلك الأيام لأنه لا يتجاوز 50% من النتاج المحلي الإجمالي، بينما الآن تبلغ ديون لبنان حوالي 162%، و تعد رابع أكبر دولة بهذا الرقم بحجم ديون بلغ 91.6 مليار دولار عام 2019، بحسب تقرير مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني المصدر عام 2020.

لكن لبنان وصل إلى مستويات قياسية في الدين لنسبة الناتج المحلي الإجمالي، ففي عام 2004 في ظل حكومة رفيق الحريري الخامسة، ورغم تبرعات المانحين في مؤتمري باريس 1 و 2 عام 2001، حيث بلغ حجم الوعودات حوالي 5 مليار دولار، لكن ديون لبنان عام 2006 وصلت إلى 33.3 مليار دولار بنسبة 184% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي نفس العام والمصيبة الأكبر أن 54% من الدين أصبح بالعملة الخارجية بحسب مصرف لبنان المركزي.

تداعيات الحرب مع الاحتلال الإسرائيلي

وفي عام 2006 بدأت حرب جديدة بين لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي والتي كانت تستهدف البنية التحتية للبنان بشكل رئيسي وكأنها تبعث رسالة أن هذه البلد بعد الحرب سوف ينتهي، مما أدى إلى تفاقم الوضع الانساني والمعيشي للدولة والشعب اللبناني، إذ يقدر خبراء أن حجم خسائر لبنان بعد الحرب بلغت 15 مليار دولار، وكانت بحاجة إلى 1.75 مليار نفقات مباشرة لإعادة الاعمار ،بحسب تقرير برنامج لبنان الاقتصادي عام 2007.

علاقة الأزمة السورية بالليرة اللبنانية

ومع تداعيات الأزمة السورية عام 2011 شهد الاقتصاد اللبناني تراجعا كبيرا نتيجة ما حملته الأزمة السورية من تداعيات على الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي، فإن الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي في لبنان وصلت إلى 18 مليار دولار حتى عام 2015، وتخطت الـ 20 مليار دولار نهاية العام 2017.

وشهد عام 2020 لأول مرة في تاريخ لبنان عدم قدرته على تسديد مبلغ 1.2 مليار دولار للدائنين بعد كل الجهود المبذولة لإصلاح الاقتصاد خلال العديد من البرامج الإصلاحية المتضمنة رفع الدعم عن أغلب السلع وزيادة الضرائب على ودائع البنوك ورفع ضريبة القيمة المضافة وخصخصة الخدمات الأساسية كالكهرباء والاتصالات والشركات التابعة للدولة وخصصتها على مدى العشرين عاما السابقة.

الحل السياسي أولا ثم الاقتصادي

ثبت أن الأزمة اللبنانية هي أزمة اقتصادية سياسية متشعبة، ما يعني أنه لا بد من وجود حلول سياسية أولا وتتبعها حلول اقتصادية، من خلال نظم ناجحة وانتخابات نزيهة تفرز نخبة حاكمة من الشعب، قادرة على تحمل المسؤولية، ولديها القدرة والنية للتغيير في النهج السابق، ولدى الشعب القدرة على المراقبة، وهذا يدفع للاستقرار السياسي أولا قبل الاقتصادي.

وفي الحل الاقتصادي يرى كثير من المراقبين أنه يجب أن تتحمل الحكومة مسؤولياتها لكي يستقر الشارع، وتحدث استجابة لأي قرارات تصدرها بعيدا عن التحالفات السياسية والمحاصصة، ليصل الشعب إلى مرحلة الثقة، التي يلتزم بها والتي قد تكون في بعض الأحيان قاسية.

تعويم الليرة

تعويم الليرة اللبنانية من الحلول التي قد تتسبب ببعض المشاكل الداخلية للبلد، كارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة، لكن في الوقت الحالي يمكن لهذا الحل أن يوقف نشاط السوق السوداء في العملات بعد الارتفاع الجنوني للعملة واستقراره على ارتفاع، لكن استقرار العملة أحد أهم شروط جذب المستثمرين حتى ولو فقدت الكثير من قيمتها، لكن تظهر أن الدولة مازالت قوية وصامده في وجه هذا التخبط ،كما أن البنك المركزي اللبناني قادر على ضبط السوق. 

فضلا أن تعويم الليرة اللبنانية سيجذب المستثمرين بسبب رخص العملة مقابل الدولار، وهذا بالتالي سينعكس على صادرات لبنان في الفترة المقبلة وبالتالي تحسن بنسب البطالة ونسب الاحتياطي الأجنبي وبداية استقرار الاقتصاد.

خفض الضرائب

خفض الضرائب على الشركات المتوسطة والصغيرة بحيث لا تتجاوز النسبة 10% وتشجيعها للدخول إلى المنتظمة الضريبية للدولة مع تثبيت القوانين الضريبية واستقرارها لمدة لا تقل عن 5 سنوات  وهذا سينعكس على المستثمرين، بحيث يتم تشجيعهم على مبادرات استثمارية.

ولكن عند خفض الضريبة ستنخفض إيرادات الدولة وهذا سيزيد من العجز والمديونية.

نظريا وبالورقة والقلم وعلى المدى القصير يمكن أن يكون صحيحا ، ولكن على المدى البعيد واقتصاديا سينعكس ذلك لأنه عندما تنخفض نسب الضرائب ، سيؤدي ذلك إلى جذب الاستثمارات الخارجية، ويتوسع الاستثمار الداخلي، وهنا نقطة إيجابية إلى لبنان لأن لديه مناخ جيد للمستثمرين للاستثمار في قطاعات كبيرة مثل السياحة والزراعة، وأيضا أن نسبة كبيرة من الشعب اللبناني لديه شركات خاصة، وهذه الشركات تشغل الكثير من العمالة وتشجعها ما يزيد من حجم الاستثمار وبالتالي تشغيل أيدي عاملة أكثر وبالتالي تخفيض نسب البطالة وسينعكس على الاقتصاد بشكل كبير ويؤدي إلى زيادة الحصيلة الضريبية وليس تقليلها .

السؤال الان هل هنالك تجارب حقيقة على هذه النظرية ؟

 للنظر على تجربة ألمانيا عندما كانت تمر بأزمة حقيقة في أوائل الألفية الجديدة ولكن في خطوة مفاجئة وغير متوقعة قررت تخفيض الضرائب على الشركات عام 2006 من 25% إلى 12.5% وكان التخطيط الاستراتيجي لألمانيا هو النظر لأبعد من النظرية المالية، وبالفعل انخفضت ديون ألمانيا من 94 مليار دولار إلى 9 مليار دولار خلال عامين فقط.

تطبيق نظام الدوام المرن وتقليل ساعات العمل.

في عام 2009 وبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي اطلت بظلالها على كل العالم كانت الخطوة من ألمانيا بتطبيق نظام الدوام الأقل وتقليل الاجور بنسبة قليلة للخروج من الأزمة، وتعويض القطاعات المتأثرة ( كبرنامج استدامه لدينا ) بدون فصل الكثير من الموظفين ، وهذا بالفعل جعل ألمانيا الدولة الوحيدة بين الدول السبع الكبرى ، التي تخرج من الأزمة بدون زيادة في معدلات البطالة لديها.

ولكن أين لبنان الصغير من ألمانيا الصناعية؟

إن وجه الشبه بين ألمانيا ولبنان يتمثل بوجود الشركات الصغيرة والمتوسطة، حيث أن لدى ألمانيا أكثر من 3 ملايين شركة صغيرة ومتوسطة تشغل ما نسبته 61% من العمالة، وتسهم بأكثر من النصف بالناتج المحلي الإجمالي، وهذا مؤشر على أن الاقتصاد الألماني مبني على هذه الشركات وليس على الشركات الكبرى.

وهذا التشابه، يضع رؤوس الأموال اللبنانية في الخارج تحت مسؤولية المساهمة والاستثمار داخل لبنان، بل والترويج لها خارجيا كبلد راعٍ للاستثمار، لإنقاذه من شبح الإفلاس في يوم نراه قريبا.

ختاما، فإنه لا بد من إرادة سياسية حقيقة للبحث عن حلول تخرج لبنان من أزمته، وتعيد بناء العلاقة مع المواطن قبل بناء الاقتصاد.

الأكثر قراءة
00:00:00