كيف تعامل مدمنو الدخان في غزة مع انقطاعه؟ وكيف استغل الاحتلال ذلك؟

الصورة
رقم كتبه الاحتلال في مناشير ألقاها يغري فيها المدخنين بمنحهم الدخان مقابل العمالة
رقم كتبه الاحتلال في مناشير ألقاها يغري فيها المدخنين بمنحهم الدخان مقابل العمالة

"صحيت عحالي وفهمت قديش كنت مضيع حالي وبصرف ع الدخان أكتر من ولادي"

آخر تحديث

قد يتساءل القارئ عن أهمية الحديث عن أزمة انعدام الدخان في غزة في ظل وجود كثير من الحاجات الأكثر أهمية؛ فالأمن منعدم، والحياة مهددة، والجوع قاتل، فما هي أهمية الدخان أمام ذلك؟ 

رجال وفتية تحدثوا لـ حسنى حول تحويل الاحتلال حاجة المدخنين إلى حرب نفسية واستقطابهم كعملاء مقابل "سيجارة"، وأوضحوا أن هذا دفع العديد منهم إلى ترك التدخين والانحياز إلى مبادئهم، فيما خاطر آخرون بحياتهم مقابل سيجارة.

البداية كانت بارتفاع سعر الدخان في غزة

في الأشهر السبعة الأولى من الحرب كان معبر رفح مفتوحا بشكل محدود، وكانت البضائع تدخل من خلاله ولو بشكل بطيء وقليل، وخلال تلك الأشهر كان الدخان في غزة من ضمن البضائع التي يتم إدخالها أو تهريبها إلى القطاع، حيث يقول أحد التجار لـ حسنى إن الدخان كان يتوفر بشكل محدود ما أدى إلى ارتفاع أسعاره بشكل كبير جدا، حيث كان متوسط سعر السيجارة الواحدة "شيكلا" واحدا، فيما وصل لاحقا إلى نحو 100 شيكل. 

ارتفاع أسعار السجائر انعكس بشكل كبير على "مدمنيه"، حيث بات البعض مضطرا إلى تقليل الكمية أولا، وإعطاء الأولوية للمواد الغذائية والطعام، يقول أبو محمود لـ حسنى: 

"أنا كنت بدخن قبل الحرب بشكل يومي، بس اليوم لو معي 50 شيكل بسأل حالي أجيب دخان ولا أكل لولادي؟؟ بكون الجواب أولادي طبعا"

مضيفا:

"قبل الحرب ما كنت أفكر أبدا أترك الدخان أو أخفف منه، بس بعد الحرب صار الواحد يعطي الأولوية لقوت يومه"

يضرب أولاده إذا فقد الدخان

وفي جانب مظلم آخر للتدخين، ومع الارتفاع الجنوني لأسعار الدخان في غزة وقلة التداول المالي، وانقطاع الرواتب، أصبح غالبية المدخنين لا يستطيعون شراء السجائر ولا حتى بالحد القليل منها، وتسبب ذلك بظهور سريع لأعراض الإدمان عليهم، من غضب وفقدان سيطرة على الانفعالات، إضافة إلى القلق والصداع وغيرها. 

تقول إحدى السيدات في مخيم دير البلح لـ حسنى إن زوجها مع بداية ارتفاع أسعار الدخان وعدم قدرته على شرائه، كان يعنفها ويضرب أطفالها:

"كان يضربنا كل ما يعصب ويفقد الدخان، وكان يسبنا ويشتمنا"

ومع استمرار الحرب لأشهر طويلة، اعتاد عدد كبير من المدخنين على غياب الدخان في غزة، تقول السيدة:

"بعدين صار أحسن، صار كل ما يحس إنو عصب يطلب منا نطلع من الخيمة أو نبعد عنه شوي، وصار أهدى وأخف عصبية لأنه تعود بدون دخان، بس لحد الآن إذا توفر له لو سيجارة وحدة ما بقصر وبياخدها"

وفي شهادة أخرى، قال أحد الآباء لـ حسنى إنه كان يصنف نفسه مدخنا شرها لكنه أدرك أن ما كان فيه أسر حررته منه الحرب:

"كنت بدخن زمان باليوم علبة.. واليوم صار الواحد يحلم بسيجارة، بس حتى لو مر أسبوع ما شربت فيه سيجارة بطلت تفرق معي، أولها كنت أضرب ولادي وأضل أغلط ومش طايق حالي بس اليوم صحيت عحالي وفهمت قديش كنت مضيع حالي وبصرف ع الدخان أكتر من ولادي"

يسرق أهله من أجل سيجارة

لا يكتفي الدخان بجعل المدمن عليه عصبيا نزقا جائرا على نفسه وأولاده، بل قد يتملك التدخين صاحبه لدرجة يصبح فيها سارقا لاهثا باحثا عن سيجارة واحدة، تقول إحدى السيدات لـ حسنى إن أخاها كان لا يتوانى في بداية الحرب عن سرقة أموال أهلها لشراء سيجارة واحدة:

"بيشقى الواحد وبتعب من الصبح للمسا عشان يحصل كم شيكل، كان يجي أخوي يسرق الشيكلات مقابل سيجارة وحدة"

الموت مقابل سيجارة 

وفي محاولة للحصول على سيجارة قال أحد الشباب إنه وبعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من المناطق الشرقية لدير البلح ورغم خطورة الطريق إلا أنه خرج برحلة خطيرة برفقة والدته وصديقه للبحث عن أي شيء في البيوت التي تمركز بها الاحتلال، وإذ به يجد سيجارة!

"لقيت سيجارة والله نظيفة زي دخان زمان بتعبي الراس"

وأضاف قائلا: 

"لو ضامن بعد كل انسحاب ألاقي سيجارة بروح يا بموت يا بدخن"

الاحتلال يبتز الغزيين مقابل سيجارة

ولأن الاحتلال يستخدم أنواع التهديد كلها ويستغل حاجات الإنسان ويحولها إلى اضطهاد ومعاناة، يدرك جيش الاحتلال أن بعض المدمنين على السجائر مستعدون لفعل أي شيء مقابل سيجارة.

وفي سياسته الدنيئة، أنزل الاحتلال مرتين مناشير ملصق بها سيجارة واحدة حقيقية وذلك في منطقة أصداء البحر في جنوب القطاع، مغريا من يريد مزيدا من الدخان للاتصال على رقم هاتف خلوي معين، محاولا سحب الشباب والفتية إلى حيز "الخيانة مقابل الدخان"، مستقطبا إياهم كعملاء.

الدخان أخطر أم حماس؟

رسالة أرسلها الاحتلال إلى الغزيين مروجا للسجائر مقابل العمالة
رسالة أرسلها الاحتلال إلى الغزيين مروجا للسجائر مقابل العمالة

وحول ردود فعل الشباب والفتية تجاه هذه المناشير، تصف مراسلة حسنى مريم سلامة أن الاحتلال كان يصطاد من خلال هذه المناشير بعض العملاء، مستغلا ضعاف النفوس الذين انقادوا لهذه الدعوات، فيما يبقى الغالبية ثابتين على مبدأ واضح رافضين للانصياع لمثل هذه الألاعيب.

لم يكتفِ الاحتلال برمي تلك المناشير على المناطق الجنوبية، حيث رصد قيام طائرات الاحتلال برميها أيضا في شمال القطاع مرتين على الأقل.

مناشير الدخان لعبة دنيئة

وفي تصميم جرافيكي بخس وركيك، وضع الاحتلال صورة قائد حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار في منشور ألقاه، ورسم له أذنين طويلتين ووضع في فمه سيجارتين معنونا الصورة بعبارة "التدخين خطير ولكن حماس أخطر".

"مراسلة حسنى: يحاول الاحتلال أن يشوه صورة المقاومة وأن يجذب ضعاف النفوس والذين يعارضون سياسة حماس عبر استغلال حاجتهم للدخان"

بعد إغلاق المعبر توجه البعض نحو زراعة "التتن"

طيلة الأشهر السبعة الأولى من العدوان كان معبر رفح متنفسا لأهالي القطاع إلا أنه وبعد احتلاله من قبل جيش الاحتلال في أيار الماضي، أغلقت جميع الطرق بوجه الغزي، فلا غذاء ولا دواء ولا خروج للعلاج.

ومع إغلاق المعبر بات المدخنون أمام خيار واحد وهو الدخان المحلي، أو ما يعرّفه أهل غزة "بالدخان الشامي".

وتعود تسميته بـ "الشامي" إلى كونه النوع الذي بقي من آثار الدولة العثمانية، حيث كان تدخينه عادة لدى كبار السن في فلسطين وبلاد الشام عموما، وكان البعض يزرعه في بعض الأراضي، وهو يشتهر بمضاره الشديدة جدا على الرئة خاصة أنه يلف في ورق دون مصافٍ ويحوي بقايا أوراق شجر وبذور ضارة. 

وفي شهادته عن زراعة الدخان، قال أحد المدخنين لـ حسنى إنه استمر في التدخين رغم ندرته، مضيفا أنه بعد مضي أشهر طويلة من الحرب، أصبح يتواصل مع أحد المزارعين ويحثه على زراعة الدخان الشامي، واتفق معه على زراعته في أراض بعيدة عن أماكن تمركز النازحين، إذ إن المدمنين على الدخان قد يشنون حربا للحصول على سيجارة واحدة -حسب تعبيره-.

"الناس مستعدة تشن حرب وتستخدم السلاح عشان سيجارة"

مضيفا:

"نزرع الدخان في أراضٍ بعيدة، وقريبة من الأراضي التي يزرع فيها الخيار للتشابه بين أوراقها، مما يبعد الشبهات حول زراعة الدخان، ويجنب المزارعين حربا قد يشنها المدمنون عليهم للحصول على السجائر"

تهريب شتلات الدخان الشامي من الضفة

تزرع أوراق الدخان ثم يتم تجفيفها وتقطيعها ولفها في أوراق الدفاتر وبيعها للناس، وباتت تنتشر مؤخرا بشكل كبير، وبأسعار تصل إلى 50 شيكلا للسيجارة الواحدة، رغم أنها كانت قبل الحرب قليلة الطلب ومرتبطة بفئة قليلة من المعتادين عليها "كسيجارة كيف" بحسب ما رصدت مراسلة حسنى مريم سلامة.

ويقول أحد الشباب لـ حسنى:

"أنا صرت أدخن التتن نفسيا عشان أحس إني بدخن زي قبل الحرب.. مع إنه هذا النوع من الدخان خالي من النيكوتين والقطران"

وحول آلية وصول شتلات الدخان الشامي إلى القطاع، وصف أحد المدخنين لـ حسنى أنه تم تهريب شتلات التتن من الضفة الغربية في الأشهر الأولى من الحرب، كما يتم تهريب الدخان الشامي "جاهزا ملفوفا" في بعض الأحيان عن طريق بعض التجار. 

دلالات
00:00:00