بيت الأحزان قصة قصيرة لمحمد العودات

الصورة

جلبة في الخارج الكل يركض ويصيح، الخوف استحكم منها، تشعر أنها مشلولة عاجزة عن النهوض وكلما تحاول الوقوف تنكسر أقدامها تحتها، تنادي على تلك الهيئات التي تتراكض وتصرخ تستطلع الأمر، أدركت أن فلذة كبدها قد غط في غيبوبة لا حراك فيه، تهمم بالذكر وفضائل آية الكرسي وسورة الصمد حتى فك الجاثوم رباطها فتحركت أطرافها.

تقف مشدوهة وهي ترى ابنها البكر محملا يهرع به إلى سيارة الإسعاف، ثوان بسيطة حتى غط صوت الإسعاف بعيدا عنها، تنادي وتصرخ على كل من حولها أن يسرع بها إلى حيث ولدها، لم تنتبه حتى وجدت نفسها قد وصلت حافية القدمين إلى باحة المستشفى، الكل ممنوع من الدخول  تراقب تلك الأجهزة من خلف الزجاج الذي ينتصف باب الغرفة ومحاولة الأطباء المتجمهرين فوقه لبث روح الحياة فيه من جديد.

ممرضة تحقن المحلول في الوريد، وطبيب يصعق صدره في الكهرباء، ترتفع نبضات الجهاز ثم تعود إلى الاستواء مجددا، ترفع يديها، لسانها يلهج بالدعاء وهي تردد بحرقة يا رب يــــا رب، تخرج من قاع أعماقها، رفع الطبيب الشرشف وغطى وجهه عندها صرخة، صرخة عميقة تردد صداها في كل جنبات المستشفى أفاقت كل المرضى في أقسامهم.

ثوان بسيطة حتى جاء العامل يجر السرير إلى ثلاجة الموتى، تشبثت به وهي تحاول أن تمنعه من سحبه إلى تلك الغرفة الباردة التي يطبق عليها السكون وتفوح منها رائحة الموت المرعب، فولدها عاش يخشى البرد ويؤذيه.

الكل في الخارج يصرخ ويصيح، والده أقعدته الفاجعة، وأمه تدور في الفناء ترقص رقصة المذبوح تحاول أن تسكت كل من يطلب له الرحمة ويقول قد مات، فهي الحقيقة التي لا تريد سماعها وهي تردد لم يمت، لم يمت.

وما أن رأته قد وضع في درجة الثلاجة حتى انهارت مغشيا عليها، لم تفق إلا على الأجهزة وقد وضعت على صدرها، والأطباء يطمئنون من حولها أنها بخير وتحتاج إلى وقت قصير حتى ستستعيد علاماتها الحيوية التي انهارت من هول الفاجعة.

الموت هذا الكائن البشع، والضيف الثقيل ما أن يحل بفناء قوم إلا وعلت صيحات الفراق وشيّدت بيوت الأحزان، الموت له وجه قميء قبيح لا يمكن أن تجمله محاسن الألفاظ والبديع ولا كلمات التصبير، وحش يفترس الجميع بلا رحمة لا رأفة، لا يمهل أحد ولا يراعي ظروف أو مسؤوليات أحد، لا تهمه الدمعات ولا الصيحات ولا توسل الثكالى ولا أنين الأرامل ولا كسر قلوب الأيتام، إذا مر بدار وشحها بالسواد القاتم لسنين طوال، عندما يدق الموت راجوجه، يعلن الحرب الشعواء على البسمات على الضحكات على الأفراح على كل جميل من محاسن الحياة.

الأقارب يتجمهرون على باب المغسلة، وما أن وصل المغسل يحمل أكفانه ولفائفه وحنوطه حتى كانت عيون الجميع تغتسل بدموعها، يقلبه ذات اليمين وذات الشمال بلا حراك، بالقطن أغلق فمه وأنفه مكتف اليدين يصم أذانه عن كل تلك الجلبة التي حوله ساكن في مراسم زفافه الأخير إلى عالم البرزخ والسلام والنور، صوت القارئ يتلو آيات سورة (ق) وكأنها تنزلت الآن على مسامع كل من حضر.

سيارة الموت تسير ببطء شديد محملة بجسد يسير إلى الفناء وجبال من الأحزان والآهات، وكأنها تستعرض أمام الأحياء تتوعدهم بأن مصيركم إلى حجري وإن طال بيننا البعاد.

وضعوه في حجر أمه لتودعه وهو مسبل العينين، أصوات العويل تقطع نياط القلوب، بكاء مبحوح حزين ممزوج بغنة ظاهرة منهكة، يتداخل صوت الدعاء بآيات القرآن وصوت البكاء واللطم وشق الجيوب، يا له من موقف تنخلع له القلوب.

الرجال يسارعون لرفع الجثة من بين النسوة فهم يعلمون كلما طال الوقت زادت أوجاع الناس والآمها، لكنه الألم المرغوب فما أن يرفع ذلك الألم حتى يحل ألم الفراق القاسي.

على شفير القبر يمد الموت قصبة الناي الرخيم ليلحن معزوفة الفراق الأخير، لحظات حتى بدأت تحل على عريس البرزخ الظلمة، وما أن اكتملت مغاليق القبر حتى حل الظلام الدامس كديجور أعماق البحار، وبدأ يهال التراب لملئ جنبات بيت الرقاد كأول محطة في طريق رحلة الخلود الأبدي، برهة حتى خلي بين عريس البرزخ وعمله، الأقدام تتزاحم في تقديم التعازي، لم يطل الجلوس على حواف القبر حتى غمغمت الشمس وهوت خلف تلة الغروب، نكت أهل الأحزان ثيابهم ويمّموا إلى سرادق العزاء، حيث الأنوار والحديث والطعام والقهوة وشهي التمر.

تجلس الأم الثكلى ساكنة سكون القبور لا تحرك لها طرف كل ما تفعله تسح الدموع الصامتة ولسانها يلهج بالذكر ودعاء إلهام الصبر، حرمت على نفسها الطعام كما حرم على موسى المراضع من قبل.

أيام لا تعرف إلا الصلاة وشرب الماء، تصوم عن الكلام ولسان حالها يقول إني نذرت للرحمن صوما، خارت قواها وأصبحت تقتات على المحاليل التي تحقن بأوردتها، يسرح خيالها مع فلذة كبدها الذي سجّته تحت التراب، شريط ذكرياتها يمر سريعا من أمامها، تتذكر حمله وتجهيز ملابسه وميلاده ورضاعته وفطامه، طفولته وضحكاته وكركراته.

تتذكر كيف نبتت أسنانه وكيف صارع الحصبة الألمانية ونجا منها بلطف الله ورعايته، كيف ذهب إلى المدرسة وكيف بلغ مبالغ الرجال، تتذكر كيف اختلف عليها صوته وخطت شواربه، تتذكر عرسه بكل تفاصيله حتى دخل إلى عروسه، تتذكر حمل زوجته وأول حفيد لها، إنها الذكريات الجميلة التي رحلت كلهيب يغلي في الدواخل يستعر ضرامه فينزع لظاه شوى الأكباد.

اتخذت من غرفتها بيتا للأحزان كما اتخذ النبي يعقوب بيتا لبكاء ولده نبي الله يوسف، تجلس على صوفتها لا تحسن إلا الدموع والأنين الجارح والذكريات.

جمدت محاجرها من كثرة البكاء حتى ابيضت عيناها، إذا تكلمت تخرج كلمات بطيئة باردة متحشرجة تهمس بها على أطراف شفاهها، لقد استحكمت من قلبها قبضة الأحزان، تحولت في شهور قصيرة إلى تمثال محنط من الأسى، ما أن تلقي عليها نظرة حتى تزهد في كل هذه الحياة؛ فهي ميتة بين الأحياء وغائبة تجلس بين الحضور.

الألم يفترسها تشعر أن صدرها أصبح بثقل الجبال لا يمكنها أن تلتقط أنفاسها، تعرض على طبيب القلب يجري لها كل الفحوصات لكن لا شيء يظهر له، لمح الطبيب في عيون المرأة حزنا عميقا تتبع القصص حتى دمعت عيناه، أمسك قلمه وفتح اضبارتها العلاجية وأخذ يخط تقريره أمام تلاميذه الأغرار المتأنقين بأروابهم البيضاء وهم يتحلقون حوله ينهلون من معرفته.

وكتب: الأم المريضة تعاني من مرض الحزن العضال، المرض استحكم منها وانتشر في كل جسدها، هذا المرض خبيث لا تكشفه أشعة ولا يظهر في عينة الدم، يتسلل بخفة على القلوب فيلتهمها يستعمرها، ويحولها إلى قلاع يشن بها حروبه المدمرة على كل أعضاء الجسد.

المريضة أم مخلوقة من أديم المحبة معجونة بماء الحنان، خلقت هذه المريضة لكي تعطف وترحم وتحب، فلا علاج للوجد وشدة الشوق التي بها ولا مسكن يطفئ نار قلبها إلا اللقاء، وهذا محال علينا في عالم الطب الذي نعمل به، هذه الأم المريضة لو وضعت لها كل مباهج الدنيا لن تفتر لها شفة ببسمة، ولن يفرح لها قلب بسرور ولن تتذوق للهناء طعما.

قلوب الأمهات عندما تصاب بمرض الأحزان أيها الأطباء الأغرار يكتب عليها أن تعيش بهذا المرض العضال حتى الفناء لتعوض في عالم النور عن كل هذا الشقاء.

ألزموا هذه الأم المريضة بيت أحزانها واتركوها تجتر ذكرياتها وأشواقها وأوجاعها فلا يخفف الحزن إلا الوصال في عالم السماء، خلوا بينها وبين مشاعرها فلا علاج للأحزان إلا الصبر، والصبر علقم وحنظل، ولا رحيل من بيت الأحزان إلا إلى دار البقاء، لتكون روحها معمدان للعطف والحنان والحب الصادق.

دلالات
شخصيات ذكرت في هذا المقال
الأكثر قراءة
00:00:00