تعريب قيادة الجيش قرارٌ مفصليٌ في حياة الأردن السياسية والعسكرية

الصورة

ترقية العميد راضي عناب إلى رتبة لواء وتعيينه رئيساً لأركان الجيش العربي وبذلك يكون اللواء عناب أول ضابط عربي أردني يتولى رئاسة أركان الجيش العربي.

آخر تحديث

 يعتبر قرار تعريب قيادة الجيش العربي، محطة مفصلية من عمر المملكة الأردنية الهاشمية، فقد كان الحسين بن طلال – رحمه الله – ملكا في ريعان شبابه عندما اتخذ قراره التاريخي والمفصلي في زمن التكتلات الدولية والحروب، وسلب قرارات القادة العسكريين من أبناء الجيش العربي الذين كانوا صفوة الصفوة من شتى أطياف المجتمع الأردني.

فالملك الشاب الذي لم يمض على توليه سلطاته الدستورية  3 سنوات أدرك،  بأن الجيش هو أساس الدولة، وسر منعتها،  ففي يوم الخميس الأول من آذار عام 1956 اتخذ الملك الحسين رحمه الله  - قراره بتعريب قيادة الجيش وإعفاء الجنرال كلوب من منصبه بالإضافة إلى بقية القيادات الانجليزية. 

 كان قراراً مفصلياً في حياة الأردن السياسية والعسكرية، وكان رحمه الله يدرك أبعاد خطوته الخطيرة والجريئة وما سيترتب عليها ..

وقد أمر جلالته بترقية العميد راضي عناب إلى رتبة لواء وتعيينه رئيساً لأركان الجيش العربي وبذلك يكون اللواء عناب أول ضابط عربي أردني يتولى رئاسة أركان الجيش العربي

وألقى المغفور له بإذن الله ،كلمة للشعب الأردني أوضح فيها سبب اتخاذه هذا القرار، وبُث الخطاب عبر الإذاعة الأردنية..

الظروف العسكرية المحلية

تولى الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية في الثاني من أيار عام 1953، بعد أن نودي به ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية في 11 آب عام 1952، وكان ما يزال طالباً في كلية ساند هيرست العسكرية، ولم يكن قد أكمل السابعة عشرة من عمره بعد، في تلك الفترة.

وكانت المملكة الأردنية الهاشمية حصلت على استقلالها في وقت غير بعيد، فالوقت ما بين الاستقلال وتسلم جلالته سلطاته الدستورية لم يتجاوز ست سنوات، ولكن المملكة خلال هذه الفترة كانت قد اجتازت ظروفاً صعبة حيث مرت في منعطفات هامة على الصعيدين العسكري والسياسي، فما إن حصلت على الاستقلال عام 1946 حتى بدأ الصراع العربي الإسرائيلي.

وبدأت حرب عام 1948، ودخل الجيش العربي الأردني القدس وخاض المعارك على أسوارها ومشارفها وفي أماكن أخرى من الضفة الغربية، وقدم رجاله أرواحهم رخيصة في سبيل الدفاع عن القدس والمقدسات والثرى العربي الفلسطيني، وخضبوا بدمائهم الزكية مختلف روابي الحمى العربي هناك، كما ترتب على حرب 1948 تشريد نحو مليون لاجئ، واستمرت الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي الأردنية.

لقد كان الجيش العربي يمر بمراحل التحديث والتطوير بعد أن تم إنشاء كتائب جديدة في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، حيث شاركت هذه الكتائب في حرب عام 1948 مثل كتائب المشاة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وتبع ذلك إنشاء كتائب جديدة هي الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والسرايا المستقلة.

أما على الصعيد السياسي فكان هناك تعديل في القانون الأساسي وفي دستور عام 1947 بناء على المتغيرات السياسية المتمثلة في الاستقلال في عام 1946، وتوحيد الضفتين بعد مؤتمر أريحا عام 1950، وكان آخرها استشهاد الملك عبدالله الأول ابن الحسين في جنبات الأقصى، وهو يتهيأ لأداء صلاة الجمعة في عام 1951.

وتبع ذلك وضع دستور جديد للمملكة في زمن  الملك طلال طيب الله ثراه، ثم المناداة بالأمير آنذاك الحسين بن طلال يرحمه الله في 11 آب عام 1952 ملكاً للمملكة الأردنية الهاشمية.

وكان على رأس الهرم القيادي في الجيش العربي الجنرال جون باجوت كلوب (كلوب باشا) كرئيس لأركان الجيش، وكان هناك ضباط انجليز يشغلون مراكز القيادة في مختلف وحدات الميدان، وبعض الأجهزة ومنها جهاز الاستخبارات، وفي ذلك الوقت كان جلالة الملك الحسين تلميذاً عسكرياً في كلية ساند هيرست العسكرية، وكان غير مرتاح للوضع العسكري في الجيش العربي وبخاصة أن على رأس الهرم العسكري قيادة أجنبية متمثلة في الجنرال كلوب والضباط الانجليز، وأسرّ جلالته لبعض الضباط الأردنيين الذين التقاهم في لندن بأن طموحه أن يكون هناك ضباط أردنيون يتولون قيادة الجيش العربي.

دوافع اتخاذ القرار

تتلخص دوافع اتخاذ القرار ، بشكل رئيس  اختلاف الملك الحسين، كقائد أعلى للجيش العربي مع الجنرال كلوب في مسألتين هما:

* دور الضباط العرب في الجيش العربي الأردني

* الاستراتيجية الدفاعية للقوات المسلحة

لقد كان  الملك الحسين يرغب في ترفيع الضباط الأردنيين إلى المناصب العليا في الجيش، وأن يتولوا قيادته طبقاً لخطة منطقية واقعية، حيث كانت المعاهدة الأردنية البريطانية تنص على حق الأردن في أن يستوفي مساعدة مالية تبلغ 12 مليون جنيه سنوياً، على ان تقدم بريطانيا الضباط اللازمين لتنظيم الجيش الأردني، ولكن الضباط الانجليز من الناحية العملية والفعلية كانوا هم الذين يقودون الجيش، وهنا كان جلالة الملك الحسين قد مارس صلاحياته ومسؤولياته في تعزيز ثقة الضباط الأردنيين بأنفسهم وفي ترسيخ روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزيز قناعتهم بمستقبل الأردن، وبدوره إزاء الوطن العربي الكبير، وكان الجنرال كلوب يقف عائقاً أمام تحقيق ذلك.

لقد شكل الجيش العربي ركناً أساساً من أركان الأردن، وبناء عليه أصبح (كلوب باشا) واحداً من الرجال الأقوى والأوسع سلطة في البلاد، وهذا بطبيعة الحال يفسر سيطرة بريطانيا على الشؤون العسكرية، وكان الضباط الأردنيون الشباب أصحاب الطموح يقصون أو يعهد إليهم بوظائف ثانوية، وكان جلالته يطالب بتدريب وتأهيل هؤلاء الضباط، ولم يستجب لطلبه إلا بعد مفاوضات اتسمت بالصبر والأناة وقد عرضت بريطانيا على جلالة الملك الحسين خطة لتعريب قيادة الجيش يتم بمقتضاها منح الضباط الأردنيين في المستقبل مزيداً من الامتيازات، والمستقبل هنا من وجهة نظرهم هو أن الجيش العربي سوف لن يستطيع الاعتماد على نفسه قبل ثلاثة عقود على أقل تقدير، وليس كل الجيش إنما سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي ويمكن أن يتولى قيادته ضابط أردني عربي في عام 1985، وهذا العرض حدث في عام 1956 وكأنهم يقولون سوف نتحدث عن هذا بعد ثلاثين عاماً.

لقد كان هناك فارق في السن بين الملك الحسين الشاب المتحمس المندفع لخدمة وطنه وأمته، وبين الجنرال كلوب الذي تجاوز الستين من عمره والمتأثر بالمفاهيم العسكرية التي لم تعد تتماشى مع روح العصر، ولم رحمه الله على وفاق مع كلوب حول الاستراتيجية الدفاعية للأردن، فكلوب كان يحاول تقييد الجيش بمفاهيمه الخاصة ولا سيما دفاع الأردن ضد إسرائيل الذي كان من أهم مظاهر الخلاف بين جلالته وكلوب، وكان جلالته يرى ضرورة أن تتضمن الاستراتيجية الدفاعية الأردنية الرد الفوري السريع لردع العدو، في الوقت الذي كان الجنرال كلوب ينصح بالتزام جانب الحكمة والحذر، أضف إلى ذلك القيود التي كانت تضعها بريطانيا على تزويد الأردن بالسلاح والمعدات، وكان  الملك  مصمماً على إنشاء جيش قوي متوازن، يدعمه غطاء جوي هام، وكان  يرى أن تحقيق ذلك مستحيل ما دام كلوب على رأس الهرم القيادي العسكري، وهنا رأى رحمه الله أن عليه أن يعزل كلوب ويعفيه من منصبه وعلى كلوب أن يرحل سريعاً.

وقد كان للملك الراحل رأي في تنظيم الجيش، حيث أنه كان يرى أن جهاز القيادة في الجيش يضطلع بأمور ليست من اختصاصه، فقيادة الجيش مثلاً لا اختصاص لها بسلاح الطيران، وكذلك بالنسبة للشرطة والدرك ودائرة المباحث في تلك الفترة.

وفي يوم الخميس الموافق الأول من آذار 1956، قرر الحسين بن طلال اتخاذ القرار مع إدراكه لمحاذريه على كافة الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكنه رأى أن الشعور الوطني والكرامة والقومية تملي عليه اتخاذ القرار، وقد طلب الملك عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء وتوجه إلى دار الرئاسة وقال لرئيس الوزراء آنذاك دولة سمير الرفاعي، إنه يرغب في إنهاء خدمات رئيس الأركان في الحال، ونفّذت الحكومة رغبته فوراً.

 قرر مجلس الوزراء في قراره رقم 198 تاريخ 1 آذار 1956 ما يأتي

1. إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصبه في رئاسة أركان الجيش العربي الأردني.

2. ترفيع الزعيم راضي عناب لرتبه أمير لواء وتعيينه في منصب رئاسة أركان الجيش العربي الأردني.

3. إنهاء خدمة القائم مقام (باترك كوجهل) مدير الاستخبارات.

4. إنهاء خدمة الزعيم هاتون (مدير العمليات العسكرية).

وفي ذلك الحين أبلغ رئيس الوزراء الفريق كلوب بقرار إنهاء خدماته، بناء على تعليمات الملك وطلب منه أن يغادر عمان في صباح اليوم التالي، كما استدعى السفير البريطاني وأبلغه قرار إنهاء خدمات الفريق كلوب فغادر الفريق كلوب عمان بالطائرة في الصباح الباكر من يوم الجمعة الموافق 2 آذار1956.

وفي تمام الساعة السابعة والنصف نقلت الإذاعة الأردنية أنباء قرار الملك ، والتي لم يكن يتوقعها أحد، حمل الأثير صوت  الحسين وهو يحمل البشرى  برحيل كلوب باشا وانجلاء غمامة الوجود البريطاني، وأصبح الجيش العربي جيش الوطن والأمة .

 

الأبعاد العسكرية للقرار

لقد كان للقرار أبعاد سياسية وعسكرية كثيرة، انعكست إيجاباً على الجيش العربي ووحداته وتشكيلاته وعلى إعداده وتجهيزه وقد تمثلت بما يأتي:      

1.استكمال القرار السيادي العسكري، حيث شكل إقصاء الجنرال كلوب وتسليم قيادة الجيش إلى ضابط عربي أردني استكمالاً للقرار السيادي العسكري الأردني وبذلك يكون قرار جلالة الملك الحسين بتعريب قيادة الجيش قد استكمل الاستقلال الحقيقي للمملكة الأردنية الهاشمية الذي كان عام 1946، وتلا ذلك إلغاء المعاهدة البريطانية عام 1957 التي كانت تقيد الأردن عسكرياً وسياسياً.

2. التعاون العسكري.. حيث تم عقد اتفاقيات للتعاون العسكري المشترك مع الدول العربية الشقيقة مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان والمملكة العربية السعودية وتم تقديم معونة سنوية مقدارها 36 مليون دولار بدلاً من المعونة البريطانية، وذلك بموجب اتفاقية التضامن العربي التي وقعت في مصر في 19 كانون الثاني 1957.

3. إنهاء الوجود العسكري البريطاني عن الأردن نهائياً.

4.بعد توقيع اتفاقية التضامن العربي في القاهرة، تم إلغاء المعاهدة البريطانية عام 1957 والتي كان لها شقان الأول سياسي والثاني عسكري وتمت تسوية كافة التفصيلات العسكرية ذات العلاقة بين القوات البريطانية والجيش الأردني.

5. أصبح الجيش العربي الأردني جيشاً للوطن والأمة ودليل ذلك وقوفه مع أشقائه العرب في أزماتهم  كأزمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956،  واستطاع الأردن التعامل مع الأحداث الجسام التي كانت تعصف بالمنطقة وتجاوزها بسلام.

6. تعبئة الموارد البشرية.. وتطبيق تجربة فريدة من نوعها عام 1962 بتشكيل معسكرات لطلاب المدارس الثانوية خلال العطل الصيفية بإشراف وزارة الدفاع والتربية والتعليم والداخلية (معسكرات الحسين) وذلك لتدريب الطلاب فيها على الحركات العسكرية واستعمال الأسلحة الخفيفة، 

7.صدر قانون بفصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي اعتبارا من 14 تموز 1956 وإنشاء مديرية للأمن العام وجعلها مسؤولة عن رجال الشرطة والدرك وعين بهجت طباره مديرا للأمن العام.

خلاصة القول

إن قرار تعريب قيادة الجيش العربي، كان  استراتيجياً على المستويين السياسي والعسكري، وكان جريئاً وهاماً على الصعيدين الوطني والقومي وكذلك الدولي، ، ويهدف إلى النهوض بالأمة وقواتها المسلحة ، وقد جنى الجيش العربي ثمار هذا القرار، وتمكن بتوجيهات من الملك الراحل  من الاعتماد على نفسه قبل الوقت الذي حدده القادة الانجليز،  بثلاثين عاماً، وتبوأت القوات المسلحة الأردنية - الجيش العربي، مكانة عربية ودولية متميزة، وقامت بواجباتها تجاه قضايا أمتها ووطنها، وساندها رجولة وتضحيات أبنائها وحكمة وشجاعة قيادتها.

 

شخصيات ذكرت في هذا المقال
00:00:00