الأشاعرة

الصورة

يُنسب الأشاعرة إلى رأس تيارهم الفكري أبو الحسن علي بن إسماعيل والذي مات عام 324 للهجرة، المُنتهي نسبهُ عند الصحابي "أبي موسى الأشعري" رضي الله عنه ، ولد ألأشعري في البصرة واستقر في بغداد وقد نشأ في بيئة مُعتزلية الفكر من الطراز الأول  حيث تزوجت والدته من إمام المعتزلة في عصره أبو علي الجُبَائي ، فنشأ تلميذا عنده وأخذ عنه علم الكلام وأصول المعتزلة الخمسة، وتتلمذ كذلك على فقه الشافعي وتدرج في مراتب الاعتزال حتى أصبح من أشد وأشهر المدافعين عن المعتزلة.

شهد الأشعري في عامه الأربعين أزمة فكرية شديدة جعلته يشك في سلامة الفكر الاعتزالي الذي يدافع عنه ويتبناه ، حتى رأى في المنام - كما تقول بعض الروايات التاريخية غير المؤكدة - عدة رؤى فهم منها أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يدافع عن عقائد الاسلام بالنقل والعقل معا ،وأن يُنشىء مذهبا كلاميا جديدا يتم فيه توظيف أدوات علم الكلام في نُصرة النصوص والأخبار والمأثورات، بحيث يكون هذا المذهب تيارا وسطيا بين السلفية والمعتزلة لا يرفضُ علم الكلام ولا يكتفي بالنصوص فقرر الأشعري أن يهجر فكر الاعتزال، وأن يلتزم مذهب الإمام أحمد بن حنبل .  

كانت تتنازع الساحة الفكرية الاسلامية حينها ثلاثة تيارات هامة ،كان أولها التيار السلفي الذين أطلقوا على أنفسهم حينها  (أهل السنة والجماعة ) أو (أصحاب الحديث) وذلك بعد نشوء فرق الخوارج والشيعة وغيرها للتأكيد على أنهم أصحاب الفهم الصحيح  للدين ! وكان قائدهم التاريخي الامام أحمد بن حنبل الذي رفض علم الكلام تماما وجعل النصوص المدخل الوحيد لفهم العقائد، وثانيها تيار الفلاسفة الاسلاميين الذين كانوا ينطلقون من براهين العقل لإثبات النقل وكان قائدهم الفكري الفيلسوف الكندي والفارابي متأثرين بالفلسفة اليونانية التي تُرجمت كتبها في تلك الفترة ، وثالثهما تيار المعتزلة الذين أخذوا يوافقون بين النقل والعقل؛ جاعلين العقل حاكما على النصوص عندما تتعارض ظواهرها مع براهين العقول مستخدمين التأويل لتلك النصوص ،وقد أرًق الأشعري حينها إنحياز المعتزلة إلى العقل على حساب النقل بدافع من الصراع بينهم وبين الفلاسفة ولضعف حجج النصوصيين أمامهم كذلك، وإصرارهم على جعل  النقل تابعا للعقل في معظم المسائل، حيث كانوا يقولون إن مناط التكليف العقل، فكيف نفهم النقل بدونه، بل كيف قررنا أن هذا النقل صحيح بدون العقل؟ وأرقهُ كذلك ذلك الجمود الذي كان يمارسه السلفيين النصوصيين عند فهم المسائل الفقهية.

انتقد الاشعري جمود السلفية واعتمد في منهجه على النقل والعقل مع تحكيم النقل

أخذ الأشعري يوجه النقد إلى جمود السلفية النصوصية وإلى مغالاة المعتزلة في العقلانية بحسب اعتقاده الجديد، والتي غالى فيها النصوصيين في التشبيه عند ذكر صفات الله إلى حد (التجسيم) ،وغالى فيها المعتزلة إلى حد (التعطيل) ، فاعتمد الأشعري في منهجه على العقل والنقل مع تحكيم ( النقل)، وقد كانت تدور معارك فكرية شديدة تتعلق بقضايا مختلفة مثل رؤية الله في الجنة وأخرى تتعلق بصفات الله وأسماءه والتي كانت من أشد المعارك بين الفرق الاسلامية العديدة  ، حيث كان المعتزلة يُنكرون مثلا الرؤية البصرية لله في الجنة لأن ذلك يُحدد الله ،على عكس ما كان يراه السلفية (المُشبهة)، بأنه يمكن رؤية الله  في الجنة على نحو يُحدد الله كما كان يرد المُعتزلة عليهم، فاتخذ الأشعري موقعا بين عقلانية المعتزلة ونصوصية السلفية بقوله:إنه يمكن رؤية الله البصرية في الجنة من غير تحديد ولا تجسيم ويفوض الكيف إلى الله .  

من أشهر تلاميذ الأشعري الأئمة الباقلاني، والجويني، وأبي حامد الغزَالي ،وقد تطور المذهب عند تلاميذه وخرج بعضهم عن منهجه في بعض المسائل ، غير أن الأشعري كان يؤكد في كتبه بأن إثبات وجود الله لا يتم من خلال النصوص، بل إن العقل وليس النقل هو طريق معرفة الله عز وجل، ومن أفكاره أنه لا يجوز أن نقول إن الخالق في كل مكان  بل هو في السماء فقط كما جاء في كتابه (الابانة) حيث وقف عند ظواهر الآيات التي تفيد تعظيم الله في ذلك ، مع أنه قد وقع في نفس الخطأ. باعتقادي  الذي وقع فيه أهل النص لأن الظاهر هذا يوهم (بالجهة)، التي يوجد فيها الله والتي تستلزم (التحيز) وهذا الذي كانوا يرفضونه من (المُشبهين) ،و مع أن هذا القول الذي  قال به الاشعري في الابانة يرفضه الأشاعرة كلهم من بعده !وقد ثار بسبب ذلك أو غيره من المسائل نقاش وخلاف حول نسبة كتاب (الابانة) إلى الإمام الأشعري بشكل كامل مما يجعلنا أمام معضلة تاريخية إشكالية تلك المتمثلة في نسبةِ الكتب الى مؤلفيها.

الاختلاف في الشان السياسي

في الشأن السياسي فان الأشاعرة يقولون: بوجود الإمامة وضرورتها لسياسة الدنيا وحراسة الدين ،لكن الإمامة عندهم ذات طبيعة مدنية وليست أصلا من أصول الدين أو الاعتقاد كما في بعض المذاهب، لكنهم أوجبوا شروطا عديدة للإمام منها أن يكون قُرشيا، وعندهم كذلك بأن طاعة الحاكم المُستبد أولى وأخف ضررا من عزلهِ بالثورة وهو يتماشى هنا مع رأي السلفية تماما في ذلك ورأي الامام أحمد بن حنبل الذي كان يُحرم الخروج على الحاكم مهما كان ظالما متوحشا !

انتشرت الأشاعرة خارج بغداد وتبوأت مكانة عظيمة في ديار الاسلام في العصور الوسطى فاضطهدتها السلفية النصوصية في ديارها ،وهاجر العديد من تلامذة المذهب إلى المغرب والاندلس نتيجة ذلك وانتشر المذهب في أرجاء العالم الاسلامي انتشارا واسعا لوسطية فهمهم للمسائل، واستخدمتهم الدولة السلجوقية لمحاربة الشيعة، واستخدمتهم الدولة الأيوبية لمحاربة الدولة الفاطمية، لكن قامت السلفية النصوصية بكل أسف بتكفير الاشاعرة في معظم كتبهم وتصريحاتهم، وقد أقر ابن تيمية (رحمه الله) بأنهم من المسلمين وأثنى على بعض أفكارهم، وكما كان يذكر  في كُتبه "هم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث"  لكنه استخدم مع بعضهم أحيانا ألفاظا قاسية وخادشة مُتهما إياهم كما جاء في كتابه (مجموع الفتاوى ) بمخانيث المعتزلة !

الاشاعرة المتاخرون يقولون بما لم يقله ابو موسى الاشعري

غير أن الامر الغريب بأن الأشاعرة المتأخرين ينتسبون بالاسم إلى الامام الاشعري ليستفيدوا على ما يبدو من قيمة الاسم والنسبة، لأن تلامذة الأشعري المتأخرين أخذوا يقولون بما لم يقل به الاشعري نفسه في بعض المسائل وهذا ليس مستغربا وهو من الامور الايجابية في بعض المسائل، وبحسب بعض الباحثين فان الصورة المنقولة عن  أبي الحسن الأشعري غير مطابقة للصورة التي يرسمها هو عن نفسه، حيث كان في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" يبدو تابعاً مخلصاً لأحمد بن حنبل، ويظهر وكأنه مجرد عالم من علماء أهل الحديث الذين يتبعون المنهج النقلي، ولا ينتهجون النهج الكلامي، وقد تأكدت تلك الصورة في الجزء الأول من كتاب الأشعري الأشهر المعروف باسم "مقالات الإسلاميين" .

بقي أن أقول بأن الخلاف بين الفرق الاسلامية من الامور الطبيعية في السلوك البشري، ولكن من المؤسف أن وصلت الامور إلى حد التكفير والإخراج من ملة الإسلام لمن قال رأيا يخالف إجتهادا لجهة أخرى، كما فعلت السلفية النصوصية مع الأشاعرة وما زالت حتى يومنا هذا ! ولو أردنا أن نُعيد النظر في القضايا التي كانت الفرق تناقشها خصوصا في مجال الاسماء والصفات قبل أكثر من الف عام لوجدنا عقلنا البشري قد تطور كثيرا وأن زوايا النظر التي ننظر منها قد اختلفت ، وأن بعض المسائل ودقائق الامور التي كانت تُثير خلافا عظيما لم تعد ذات بال وقد تم تجاوزها بفعل الزمن وتطور العقل البشري ولم تعد تؤثر على الاعتقاد والايمان ولأصبح الرد عليها بسيطا نتيجة توسع مداركنا وتطور عقولنا.

وأعتقد كذلك أن الخوض في مسميات الفرق وضرورة الانتماء لها قد أساء للاسلام أكثر مما أفاده؛ فنحن نفهم الاسلام كما فهمه الصحابة عندما كان القرآن يتنزل عليهم مُعتمدين على صحاح الأحاديث واجتهادات الصحابة والعلماء الثقات من بعدهم وكذلك فهم سياقات التنزيل وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، دون الخوض في إشكاليات المسائل الشائكة الدقيقة التي غلب عليها التنطع والتكلف ودون الخوض كذلك في  إشكاليات نشوء الفرق التي نشأ بعضها لاسباب سياسية وبعضها لأسباب فكرية أو كيدية لا نعلمها ،ومن الخطأ باعتقادي أن نقوم بالزام  أنفسنا بالانتماء لفرقة أو طائفة قد أخطأت أو أصابت  في مفهوم آية أو تفسيرها وتأويلها ، فقد نتفق مع الأشاعرة والسلفية والمعتزلة وغيرهم في بعض المسائل وقد نختلف معهم  في مسائل أخرى دون أن يلزمنا ذلك الانتماء لأي جهة أو فرقة أو طائفة أو أن يجعلنا ذلك نُكفر فرقة دون أخرى .    

دلالات
شخصيات ذكرت في هذا المقال
00:00:00