ما نأخذه وما لا نأخذه من الغرب

الصورة

بقلم: محمد العودات

لماذا علينا الاستقراض الحضاري من الغرب؟! ونحن أصحاب الحضارة العميقة، لا شيء قادم من الغرب يسر القلب، أخطر غزو هو الغزو الثقافي، نحن الذين أشرقت شمسنا على الغرب.. إلخ، هكذا تبرر بعض الحركات الفكرية رفضها ونظرتها المتعالية للمنتج الغربي في كل تفاصيله، وتعامل المنتج الغربي في العلوم الإنسانية وكأنه قطعة واحدة تؤخذ كلها أو تترك كلها.

لسنا الأمة الوحيدة ذات الحضارة

في البداية لا بد أن نشير إلى أننا لسنا الأمة الوحيدة التي كان لنا حضارة، إذا كان المقصود في الحضارة هو القدرة على إنتاج العلوم والمعارف والبنيان، فكانت قبلنا حضارة ما بين الرافدين والحضارة الفينيقية والحضارة اليونانية التي يمكن وصفها بالرحم الولود للحضارات ثم الحضارة الرومانية التي كانت ترجمة فعلية للحضارة اليونانية ثم كانت الحضارة الإسلامية التي ترجمت من كل علوم الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية وابتدعت المنهج التجريبي فنهضت العلوم المادية بشكل كبير، لكنها حضارة زهدت في ترجمة العلوم السياسية من الحضارة اليونانية وابتدعت فكرة الحاكم المتغلب وبقي تداول السلطة قائما على السيف والغلبة والانقلابات حتى يومنا الحاضر.

ما المقصود بالحضارة؟!

أما إذا كان يقصد بالحضارة الجانب القيمي والأخلاقي فبلا شك أن لكل الأديان السماوية والفلسفات الأرضية بنية أخلاقية وقيمية تنادي بها وهذا ما أقره رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، عندما قال" إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق" فهي مساهمة في بناء المنظومة الأخلاقية وليس صناعتها من الصفر وقال صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت.

أما إذا كان المقصود في الحضارة التوسع العسكري وحكم الشعوب فقد كانت الإمبراطورية البريطانية أكبر إمبراطورية في التاريخ حتى عقد من الزمان وسميت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقبل ذلك الإمبراطورية المنغولية كثاني أكبر إمبراطورية في الاستيلاء على المساحات الجغرافية والإمبراطورية البرتغالية التي استمرت ستة قرون والإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية .. إلخ.

نحن كعرب ومسلمين شكلنا حلقة ذهبية مهمة في سلسلة الحضارات الإنسانية ولسنا من أسسنا الحضارة الإنسانية من الصفر ولن تتوقف الحضارة الإنسانية بنكوصنا وتراجعنا، ولذلك علينا رؤية أنفسنا بحجم مساهمتنا في تلك الحضارة الإنسانية بعيدا عن تضخيم الذات أو التقليل من شان هذه المساهمات الجوهرية في عمر الحضارة الإنسانية، ولكل الحضارات الإنسانية أيضا مساهمات مهمة في خدمة الإنسانية لا نستطيع نكرانها أو الانتقاص منها.

حضارات بُنيت على بعضها

عندما قامت الحضارة الإسلامية قامت على إرث الحضارة الرومانية وترجمة علومها، وعندما قامت الحضارة الغربية الحديثة بدأت من حيث انتهت الحضارة العربية والإسلامية وترجمة علومها وخصوصا المنهج التجريبي، فحضارات الأمم تأخذ من بعضها البعض حتى تستمر سلسلة الحضارة الإنسانية وحتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه حاليا.

فهم السياق الذي أخذت منه الحضارات وتأثرت ببعضها البعض يعيدنا إلى سؤال ما الذي نأخذه من الغرب وما الذي لا نأخذه، فالحضارات الصاعدة تنهض وتحلق بجناحي العلوم الإنسانية وجناح العلوم المادية وأي حضارة تحلق بجناح المادية سيكون سقوطها سريعا، لا أحد يختلف حول الأخذ من الحضارة الغربية في علومها المادية "وإن كنا نجلس من الحضارة الغربية المادية مجلس المستهلك لا مجلس التلميذ المتعلم" وهذا ما يجعلنا دائما عاجزين عن المساهمة في الإنتاج المادي والمشاركة فيه والبقاء في مربع المستهلك.

الجدلية الكبيرة لدينا في الأخذ من الحضارة الغربية في العلوم الإنسانية من تربية وتعليم وعلوم أخلاق وعلوم سياسية وعلوم إدارة.. إلخ، لدينا مشكلة فهم كبيرة في الأخذ بالمنتج الغربي في العلوم الإنسانية والعلوم السياسية على وجه الخصوص، وعادة ما نخلط بين الأخذ في العلوم الإنسانية والأخذ بسلوكيات وأنماط الحياة اليومية، فنقرن الحرية السياسية بالحرية الجنسية والشذوذ وعندما تذكر الحرية عادة ما تقفز سريعا إلى الذهن العربي والإسلامي المثلية الجنسية، نحن نحتاج أن نتعلم ونترجم من الغرب علومه السياسية ونطبقها لأننا لا نملك عبر تاريخنا الطويل نظرية سياسية متماسكة في التداول السلمي للسلطة والحكم أكثر نضوجا ووضوحا في معالمها من النظرية الغربية الحديثة، لكننا لسنا ملزمين بالخلط ما بين النظرية السياسية الغربية ونظرية  الغرب في سلوكه الشخصي وأنماط الحياة الشخصية لهم، وهذا التعمد في الخلط تعمد مضر يستفيد منه دعاة الاستبداد والرجعية الفكرية.

نأخذ ما يناسب ثقافتنا وحياتنا

ليس كل ما لدينا أفضل مما لدى الغرب كما يتصور ويصور البعض، فنحن نحتاج أن نتعلم من العلوم الغربية ما حقق لهم سر النهوض والنجاح وهي العلوم السياسية والعلوم الإنسانية، والأخذ منهم بما يناسب طبيعتنا وثقافتنا وأنماط حياتنا دون إخلال بجوهر هذه العلوم، كما علينا التفرقة بين العلوم الإنسانية الغربية وأنماط وسلوك الحياة اليومية الذي يختلف من أمة لأمة ومن شعب لشعب ومن عرق لعرق ومن دين لدين ومن زمان لزمان آخر، ليس كل ما هو قادم من الغرب في العلوم الإنسانية غزو ثقافي يناقض ديننا ومعتقداتنا كما يتصور البعض، بلا شك أن كثيرا من النظريات في العلوم الإنسانية لدى الغرب متقدمة جدا عما نظن أننا نملك مفاتيح النجاح به، وأن كثيرا مما نتغنى بإنتاجه والإبداع به أصبح في ظل العصر الحديث بضاعة وعلوما لا وزن لها مقارنة بما أُنتج في العصر الحديث، كما هو شأن كل العلوم التي تقوم على التطور والتحديث الدائم.

الأكثر قراءة
00:00:00