رسالةٌ من أبي

الصورة
رسالة من أبي - مقال غيث القضاة
رسالة من أبي - مقال غيث القضاة

بقلم غيث القضاة | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

كانت أول رسالة ورقية استلمتها في حياتي عندما كنتُ في الصف السادس الابتدائي؛ حين جاءت مديرة المدرسة إلى صفنا وطرقت الباب وسألت عني، فجفّ الدم في عروقي! ولكنها كانت تحملُ مُغلفا ملونا صغيرا في يدها وقالت لي هذه رسالة من والدك في أمريكا.

كان والدي رحمه الله حينها في دورة تدريبية مع ضباط الأمن العام لمدة ستة أشهر، فأرسل لي هذه الرسالة التي أشعرتني بفخر شديد بين أقراني وكانت حدثا غير عادي في ذلك اليوم؛ فلقد كانت رسالة خاصة باسمي، ثم تأتي مديرة المدرسة لتعطيني إياها! يا له من فخر حينها، وأنا ذاك الطفل الحيي الخجول الذي كان وجههُ يحمرُ خجلا من أي موقف يحصل معه.

لم أستطع الانتظار حتى أعود إلى المنزل، فلقد كان المغلف جميلا ويحمل طابعا لبعض ناطحات السحاب، لفت نظر أصدقائي من حولي، ففتحتُ الرسالة وإذ بداخلها صورة لوالدي أثناء التدريب مع رسالة بخطه الجميل الأنيق يسألني عن أخبارنا وأخبار البيت والأهل، ويُحدثني عن بعض تفاصيل حياته في ذلك البلد الغريب البعيد الجميل.

جعلتني هذه الرسالة أشعر أنني أصبحتُ كبيرا وأستلم الرسائل! ولا زلتُ حتى اللحظة لا أنسى ذلك الشعور الغريب الذي أحسستُ به والذي يصعبُ وصفه، حيث الشعور فجأة بالرجولة كما يقول الشاعر أمل دنقل في قصيدته (لا تصالح).

أخذتُ الرسالة إلى أمي حفظها الله وقرأنا الرسالة عشرات المرات، وطالعنا الصورة عشرات المرات وجلسنا وإخوتي نُحلل كل شيء في الصورة ونتخيل الأشياء والأوقات هناك، واحتفظنا بالرسالة في رف علوي كنا نحفظ به الأوراق الهامة.

أيها الآباء، أيتها الأمهات، لا تُقللوا أبدا من أثر تصرفاتكم مع أبنائكم خصوصا في مرحلة التشكُل والطفولة، فهي كالنقش في الحجر، ستبقى آثار ما تقومون به من خير أو شر تظهر في تصرفات أبنائكم طوال عمرهم، ولن تدركوا حجم الأثر النفسي الذي قد يتركه تصرف بسيط على شخصية أولادكم، فاحرصوا على تشكيل ذكريات جميلة في مخيلتهم واصنعوا منهم رجالا ونساء للمستقبل، واجعلوا لحظات حياتهم أجملَ ما تكون فأنتم الآن (تعيشون في ذكريات أبنائكم).

رحم الله والدي، فلقد تعلمنا منه الكثير من الأخلاق العالية وعزة النفس والأنَفَة وقوة الشكيمة، وكان حريصا على أن يصنع منا شيئا مختلفا ببعض اللفتات التي كان ينتبه لأهميتها ويحرص عليها، وهو الذي كان يُدرك بلا شك الأثر الإيجابي لذلك علينا، أو أنه كان يُدرك أن صُحبته معنا لن تطول كثيرا حتى يرانا نبلُغ مبلغَ الرجال، وقد كان.

00:00:00