خاطرة شاب من جيل الألفية يدخل العقد الثالث من العمر في زمن يخط نظامه العوام

الصورة
ليث أبو نواس
ليث أبو نواس

بقلم: ليث أبو نواس | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

نعم عزيزي القارئ فلا تستعجل في الحكم من العنوان فقط، ودعني أطرح هذا التمهيد فأقول: كتبت هذه الخاطرة وقد ولدت في منتصف جيل الألفية أو كما يسمى بجيل "واي"؛ وهو الجيل الذي يضم مواليد الحقبة الزمنية ما بين بدايات الثمانينيات إلى بداية الألفية الثانية، ويعتبر هذا الجيل عابرا بين حقبتين ملتهبتين بالأحداث، إحداهما شهدت الحروب العالمية وكيف ظهر النظام أحادي القطبية ليسود العالم، والثانية شهدت انفجار زخم الشبكة العنكبوتية بجيليها الثاني والثالث وظهور وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة تطور التكنولوجيا (التِقَانَة) المجنونة، وما تبعها من عولمة للمشاكل والحلول، ولعلي أتطرق لهذه الأخيرة في مقال آخر مفصلا.

وها أنا مترنحا بين ما ورثته من مبادئ وما أرى من تصرفات وتغيرات، أدخل رحلتي في الحياة الدنيا بعقدها الثالث، وما زال في الوجدان صور تعجز عن عرضها الكاميرات الحديثة، ومقاطع مرئية لا تجدها اليوم في خوادم شركات يوتيوب أو "نتفليكس". بل هي ذاكرة الطفل المجردة من التقانة البشرية، صنعة إلاهية تحفظ الأحداث والعلم كنقش الكاتب على الحجر كما وصفتها أقلام الشعر.  

ذكريات جيل الألفية

وحتى لا أطيل، أحمل في جعبتي اليوم صورة لبابور الكاز (موقد يعمل باشتعال فتيلة منقوعة بمادة الوقود الكيروسين)، وكان صاحب شحار (سكن) وصوت عال مرتفع. كم أكره هذه الأداة؛ فعندما كنت أستمع لطقات (ضربات) ضاغط الكاز أو ناكش الفتيل ليشتعل، ضربات فوق ضربات حتى تدق النار فيه، فيخرج علينا بعين حمراء غضبا وكأنه مارد ساخط على من يوقظه من نوم طويل! فيملأ الغرف والأنحاء بصراخ وهدير يعرف منه أن الصباح قد اشتعل حتى يصير إلى نار زرقاء شبه صافيه! 

كانت الناس تضعه ضمن أولويات البيت، ففي صباح كل جمعة تبدأ سيمفونية طرق وإشعال النيران من أجل حفل الغسيل في البيت، فتشعل فوقه صفيح من الزينكو المَلآن بالماء والملابس البيضاء التي تمزج مع مسحوق الغسيل و النيلة الزرقاء لزيادة بياض الملابس! مع التحريك بخشبة لضمان معايير النظافة! هذه عادات من كان يسكن في الوحدات السكنية في مخيمات اللجوء، وكذلك من كان يسكن حواكير الزراعة في القرى، بل وأجزم أنها أيضا عادة من عادات أهل البيوت الحجرية في المدينة. 

وبنفس الصفيح بعد التنظيف من الداخل؛ لأن الخارج يزينه السكن الأسود متوشحا بخطوط الكلس بعد تبخر الماء، فتوقد المياه الساخنة حتى يستحم أهل البيت بالتناوب من الكبير حتى الصغير، وكانت مغارفهم علب حليب أو سمنة بلدية فارغة تمزج رائحة الكاز مع صابون الغار وزيت الزيتون ومادة السيرف أو مسحوق الغسيل! وبالتأكيد تلمح في الذاكرة صور الليف الأصفر الطويل وبشاكير الجيش الأخضر وصوت الراديو المشوش وغيرها من أدوات تكاد لا تراها اليوم!

السواد من البابور إلى القلوب

فاليوم ذهب بابور الكاز، وسلمت الأواني والحيطان من سكن الرماد الأسود، ولكن الزمان وتعاقب الأيام، في هذا العصر الذي يخط نظامه العامة؛ ترى أن السواد تحول من بابور الكاز إلى القلوب أشد من الرماد! فما عادت الأصوات تعزف غير صراخ الماديات في بيت العائلة الواحدة، وما عادت الأرض برحبها تجمع أفراد العائلة كما كانت تجمعهم صفيحة الزينكو الساخنة! وما عادت رمزية البابور عنوانا مجازيا للوحدة بين حال من يسكن المخيمات، ومن في القرية أو المدينة. وكأن بابور الكاز قد ارتاح وتقاعد وأصبح الطرق اليوم على هيكلة العائلة وبناء المجتمع! في عصر سيعرف فيما بعد بعصر شبكات التواصل الاجتماعي الخالية من أي نوع من التواصل والترابط، بل هي خوارزميات كتبها عوام من أجل أن تحقق الأرباح والعوائد المادية في هذا العصر المادي. 

يسميها البعض ويختصرها بالحضارة والتمدن، التي حلت على مجتمعنا بطرفة عين، فتحولنا من بابور الكاز إلى الأجهزة الكهربائية والتقنية. ولم يدرس أحد من أصحاب الاختصاص والحكمة عندما تم استيراد هذه الحضارة، ما الثمن الغير مادي الذي سيدفعه المجتمع، ولعلي أفرغ وقتا للمقارنة بين الأحوال التي ما زالت تعلق في الذهن بين ما قبل نهاية حِقْبَة التسعينيات وبداية الألفية الثانية. 

وأنا لا أتحدث من فراغ أو حالة حنين إلى الماضي، فأنا من عائلة تتكون من عدد كبير من الأعمام والعمات يفوق العشرة، وها نحن اليوم نعيش كالشتات، لا نتكلم ولا نزور بعضنا بعضا إلا في المناسبات الرسمية وليس مع الجميع، فقد دخل بين روابط الأخوة مارد المال وبعض الماديات، جعلت صراخ البابور أهون على السمع من صراخ المشاجرات، وأصبح من يقرر ومن يقود زمام الأمور الطفل الجاهل أو العوام الذي لا يحمل الحكمة ولا خبرة السنوات.

لذلك سأستمر في كره بابور الكاز! فكلما رأيت صورا له، أعيد في ذاكرتي صور الحياة البسيطة المليئة بالسعادة! فحزنت على حال المجتمعات التي فقدت معالم هويتها الجامعة واستبدلتها بحاضر مرير مُمتلِئ بالأنانية والفردانية! هذا المجتمع الذي وضع الفرد فيه مصلحته الشخصية أهم من أي اعتبارات أخرى، وقبل أن يساق بين خطوط نظام العولمة الذي يكتبه العوام للعوام فيصير المسار على غير هداية كسير التيس بالأنعام.

00:00:00