نقطة ضعف

الصورة

بقلم: غيث القضاة

في عام 2007 شاركتُ في دورة تتعلق بفنون وأساسيات القيادة والتوجهات الحديثة في الإدارة، كانت مدة الدورة سبعة أيام متواصلة مع الدكتور طارق سويدان، والتي جعل فيها خُلاصة خبرته الأكاديمية والعلمية والعملية، لا أخفيكم سرا أن هذه الدورة غيّرت مسار حياتي جذريا؛ حيث قررتُ أثناء الدورة ونتيجة اندماجي مع الأفكار القيادية التي أعشقُ أسسها، وأميل لها ميلا عظيما أن أستقيل من عملي في دولة قطر، كنتُ حينها أدير شركة متخصصة فيها أكثر من تسعين مهندسا وموظفا وإداريا وفنيا من ضمن شركة قابضة تمتلك هذه الشركات، وقد كانت إحدى الرسائل الهامة التي استقرت في ذهني نتيجة هذه الدورة، أنني لا بد أن أعود إلى عمان لأبدأ هناك بتأسيس شركتي الخاصة مهما كلفني ذلك، وبالفعل عدتُ إلى الأردن، وبدأت بتأسيس شركة متخصصة في المجال الهندسي الذي أعمل فيه، وتخصصت وتطورتُ فيه في دول الخليج.

ما أرغبُ أن أتحدث عنه تحديدا ليس عودتي إلى الأردن وبدء العمل وإنشاء شركة جديدة، فهذا له مقال آخر، فلقد كان من ضمن التمارين التي تعرضنا لها أثناء الدورة والتي كان الهدف منها اكتشاف نقاط القوة ونقاط الضعف في شخصياتنا، عبر تمارين قيادية ومعايير عالمية متخصصة تستطيع من خلالها أن تتعرف على نفسك وعلى نمط شخصيتك وسلوكك وعلى قدراتك القيادية والإدارية، كان منها تمرين يسمى (DISC)، في هذا التمرين تُعرض عليك عدة مسائل ومشاكل إدارية وقيادية تتعرض لها في عملك، ويتم متابعتك من خلال التمرين للتعرف على قدرتك على الحل واتخاذ القرارات المناسبة، ثم في النهاية وبعد تجميع العلامات والأرقام والنتائج تتعرف على نفسك وطبيعة تفكيرك وسلوكك بشكل أكبر.

كان لدي صفات قيادية مهمة ظهرت في هذا التمرين، ولكن كانت المثلبة الرئيسية في شخصيتي القيادية أنني شخص "غير حازم" في اتخاذ القرارات؛ بمعنى أن بعض القرارات التي قررتُها أثناء التمرين تدل على عدم التعامل بحزم من طرفي في بعض المسائل والقضايا والتي ستقود إلى نتائج غير إيجابية إذا لم أنتبه لهذه المشكلة، حقيقة توقفتُ أمام النتيجة، وجلستُ أراجع نفسي وأراجع بعض قراراتي لأجد نفسي أتفق تماما مع هذه النتيجة، وجلستُ أفكر في كيفية تغيير هذه الصفة السلبية في شخصيتي، وبتُ أستذكر مسار حياتي بشكل عام لأكتشف أنني بالفعل أميل إلى عدم الحزم في تنفيذ بعض القرارات أو الإصرار عليها وعلى موقفي، بل كنت أميل دائما إلى أن أجور على نفسي أحيانا واضغط عليها، أو أن اتخذ قرارا مخالفا لما يجب أن أتخذه مراعاة لمشاعر بعض الأشخاص أو الموظفين أحيانا، أو رغبة مني في عدم الإساءة الشخصية لهم أو إحراجهم.

كانت هذه نقطة ضعف رئيسية في مسار حياتي، عرفتُها بعد أن تجاوزت الثلاثين من عمري من خلال اختبار بسيط جعلني أتنبه إليها وإلى خطورتها في حياتي وعلاقاتي ووظيفتي، وكنت أعتقد أنني أُحسن صُنعا أحيانا في عدم الحزم والميل نحو عدم التشدد مراعاة لظرف ما أو تقديرا لمشاعر شخص عزيز أو قريب، حتى لو كان ذلك على حساب راحتي أو فيه هضم لحقي، وكنت أعتقد أنني من الناس الذين ذكرهم النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديثه عندما قال (رحم الله عبدا سهلا إذا باع، سهلا إذا اشترى، سهلا إذا اقتضى) كنت أفهمُ السهولة بطريقة خاطئة بعكس ما يريده النبي الكريم، ودون أن أنتبه لعواقبها وتبعاتها السيئة، ولأكتشف لاحقا أن الناس يستسيغون هضم حق الإنسان (السهل) الذي يجورُ على نفسه أحيانا من أجلهم دون أن يُقدّروا قيمة ما يقوم به تجاههم، ويبدو أن هذه طبيعة البشر الظالمة، فالناس تخشى اللئيم مثلا، وتحسِب له ألف حساب، وقد لا تقيم وزنا لشخص لا يعرف اللؤم أو الشراسة النفسية، ويجعلونه في ذيل حساباتهم؛ لأنه بالنسبة لهم سهل لين الجانب! فيكون هو بكل أسف أول الكتف الذي يؤكل منه وأول الناس الذي يُهضمُ حقه، بل ويُتجاوز عليه أحيانا.

هنالك صفات تعيش مع الإنسان منذ طفولته، فقد يأخذ الواحدُ فينا بعض الصفات الإيجابية أو السلبية من أمه أو أبيه دون أن يعلم أو من محيطه الذي يعيش فيه، فمن عاش في بيئة مشحونة مضطربة سيصعب عليه العيش في سلام نفسي، ومن عاش في بيئة مريحة يسهل عليه العيش بسلام، وبتُ على قناعة كاملة بعد خبرة متواضعة في هذه الحياة أن الإنسان بحق هو ابن بيئته، وأن الإنسان يصعب أن يتغير بعد أن يتشكّل ويكبر، فمن تشكّلت أو تشكل في بيته قبل الزواج يصعب أن يُعاد صياغته بعد الزواج، ومن تمّرن من الرجال على حُسن الحوار والنقاش سيبقى كذلك طوال عمره، ومن تمرس على غير ذلك، فلن يتغير إلا بمجاهدة النفس وبالتطبع الصعب، هذا إذا استبصر الإنسان بمشاكله، وعرفها وصارح نفسه بذلك.

اهتموا بأبنائكم، وقدّموا لهم نماذج مشرقة ومضيئة في الحياة، والنماذج ليست في حُسن الكتابة والتعبير والنظريات الجامدة أو القصص المنقولة، بل في الممارسة والسلوك الطبيعي والحقيقي؛ ففي ابتسامة تبتسمها الأم في وجه أبيهم، أفضلُ تدريب نفسي لمعنى الحب والتقدير ، وفي الممارسة العملية من قبل الأب في الابتعاد عن العناد والتشبث في الرأي أفضل تدريب نفسي للأطفال على فن التنازل والمرونة وتقبل النقد وحُسن الحوار والنقاش بغية الوصل إلى الحقيقة، وفي جو البيت غير المشحون بالنكد أو العبوس أو التكدر النفسي أفضل رسالة للأطفال في جعلهم يُقبلون على الحياة بسوية نفسية دون تشوهات، وفي ممارسة الأم لمهارات إدارية وقيادية في إدارة المنزل وحسن التعامل مع الوقت فيما يفيد، أفضل تربية للأولاد على حسن إدارة حياتهم في المستقبل.

انتبهوا لأبنائكم من ضعف الشخصية أو الاكتئاب والخجل أو الانطوائية الخطيرة، وحاذروا من صفة العناد أو التشبث بالرأي التي قد تلاحظونها عند طفولتهم، واسعوا جاهدين إلى علاجها في مهدها، فسوف تكبر معهم تلك الصفات، وتتحول لديهم إلى سلوك طبيعي يمارسونه دون إدراك خطورته على أنفسهم أو على من حولهم، فعندما يتزوجون أو يعملون في المستقبل ستنقلب حياتهم إلى جحيم، كيف لا وقد عاشت معهم تلك الصفات السلبية، وتطورت وأخذت أشكالا عدة ومظاهر نفسية شتى، تلك التي لم يعالجها، أو ينتبه لها الأهل في حينها، فأصبحت جزءا رئيسا من تكوينهم وشخصيتهم، واحرصوا كل الحرص على أن ينشأ أطفالكم بنفسية مرحة تعرف المعنى الحقيقي للسعادة، وتستمتع بالحياة كما تستمتع تماما بالتزامها بدينها وأخلاقها؛ فهما صنوان، إذا سقط أحدهما سقط الآخر.

هنالك نقاط ضعف كثيرة في حياتنا أساسها وجذورها في طفولتنا، تكُبر معنا في بيوتنا، وتتطور دون أن ندري، وقد تعيش معنا دون أن نشعر بخطورتها، وقد نعتبرها سلوكا عاديا لا خطورة فيه، ونمارسه دون أن نستبصر بعمق المشكلة ، لكنها قد تُشكل أزمة دائمة في حياة الرجل والمرأة إن لم ينتبها لها.

الأكثر قراءة
00:00:00