حوكمة الإشراف الهندسي تعزز الثقة بقطاع الإنشاءات وتشجع الاستثمار

الصورة

بقلم: ليث أزهر | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

لا أكتب عن حالة خاصة ولا أستهدف تفاصيلا بعينها ولا أحكم على أحد أو أبرئه، بل أود أن ألقي الضوء على مسألة عامة من خلال حادث معين يتعلق بحال عماراتنا ومبانينا التي كانت و لا تزال تعتبر نسبيا الأفضل جودة ومتانة في المنطقة العربية.

الأمر ببساطة وكالعادة، يأتينا من خلال الحوادث الطارئة التي تفضح نواقصنا وتلقي الضوء على مشاكل تأخرنا كثيرا في معالجتها، إذ ننتظر حادثا مؤلما أو خسارة كبيرة لكي نصحوا وننتبه ويا ليتنا ننتبه!! فبدلا من أن نحدد أسباب الحوادث ونعالج الخلل لنمنع تكرار هذه الحوادث، ترانا نبذل أقصى الجهود لإيجاد "مسبب للحادث" لنرمي المسؤولية على عاتقه ونعود إلى نفس الممارسات ونتبع نفس الإجراءات التي قادت إلى حدوث ما أقلقنا وآلمنا.

ماذا سيجلب الغش لفاعله؟

بالأمس القريب يتحدث مواطن على حسنى عن اكتشافه -بالصدفة- صفائح من التنك في الجدار الخرساني لعمارة مبنية قبل أقل من 10 أعوام، والتي من المفترض أن تكون قد بنيت عن طريق شركة إسكان محترمة بواسطة مقاول مرخص وتحت إشراف هندسي ومكتب استشاري معتمد من نقابة المهندسين. وكما هو متوقع ورغم أن المنطق يحتم علينا إدراك أن استبدال "سطلين باطون بسطلين تنك" لن يجلب للمستثمر العقاري أي فائدة أو ربح إضافي سوى المشاكل ووجع الرأس، ولن يوفر للمقاول مصاريف دخان أسبوع فإن أول ما يخطر على البال هو توصيف الحالة على أنها غش متعمد من قبل شركة الإسكان أو من المقاول، لأن هذا الاستنتاج هو الطريق الأيسر والأقصر والأضمن لتعليق التهمة قضائيا على عاتق كبش فداء يكون جهة معرّفة ذات علاقة مباشرة بالمبنى ولها القدرة المادية على جبر الخلل فيرتاح بالنا ونعتقد بأننا قد قمنا بما يلزم لمعالجة المشكلة وإغلاق ملفها بنجاح.

"تنك فارغ" بدل الإسمنت على جوانب عمارة في خلدا!

ولكن.. يا ترى، هل حققنا العدالة؟ هل عاقبنا المذنب الحقيقي؟ هل قطعنا دابر هذا النوع من الخلل وأمثاله؟

مع الأسف أقول لكم كلا وكلا ثم كلا!!! فدائرة التقصير تشمل كل الأطراف ابتداء من الحارس ومرورا بالعمال والمقاول ومراقبي العمل والمهندس المشرف و انتهاء بالمسؤولية الأدبية لصاحب المشروع.

ممارسات دافعها التكاسل والجهل وغياب الرقابة

وقد يبدو الأمر غريبا أن نضع الحارس مع قائمة المسؤولين، ولكن لتوضيح الربط يجب أن نعرف كيف تدار منظومة الأعمال الإنشائية المماثلة في الأردن لكي نضع أيدينا على مواطن القوة والضعف فيها. فالعمل الإنشائي لبناء عمارة سكنية يتم من خلال حلقة متكاملة تتكون من المستثمر / صاحب المشروع "شركة الإسكان مثلا"، المكتب الاستشاري ومهندسه المشرف، المقاول الإنشائي المعتمد، عمال المقاول وأخيرا الحارس الذي يلعب دورا محوريا أحيانا في مراقبة العمل ومتابعة بعض فقرات المناوبة المسائية، كجمع الأنقاض وسقي الباطون وتحشية الجدران وغيرها. وأنا لا زلت أذكر ما حدث في العام 2002 حيث كنا نشرف على بناء خيري (غير ربحي) في قلب عمان عندما تلقى المهندس المشرف من الحارس النجيب الواعي إشارة بأن عمالا للمقاول يقومون بتحشية الجدار مساء بالأنقاض بدلا من الباطون، فتم ضبط الأمر وإصلاح الوضع بصعوبة، فكان هذا درسا لنا لأخذ الحذر فيما تلي ذلك من مشاريع لأن هذه الممارسات الخاطئة لا تقوم عادة لهدف مادي بحت بقدر ما تأتي بسبب التكاسل والجهل وضعف الرقابة وغياب المساءلة.

حالات لا تمثل مستوى البناء أردنيا

 ورغم الصورة التي رسمناها آنفا فإن مما تجدر الإشارة إليه هنا أن البناء و العمران في الأردن لا يزال يتميز بمستوى ضبط جيد من حيث تطبيق المواصفات والمقاييس الفنية المتعارف عليها ونستطيع بكل ثقة أن نضعه، كما أسلفنا القول، في مصاف المراتب المتقدمة مقارنة مع مثيلاته في الدول المجاورة. ويعود الفضل في هذا الأمر لعوامل عدة أهمها، تقيد أصحاب العلاقة من مهندسين ومستثمرين ومقاولين بالأعراف البنائية السائدة وكذلك التزام المكاتب الهندسية بتوجيه التصاميم والأعمال الإنشائية نحو مطابقة المواصفات القياسية وعدم الحياد عنها. ولكن هذا المستوى الجيد للمنظومة العاملة في قطاع البناء والإنشاءات لا يعني خلوها من سلبيات يلمسها الشخص الخبير والأشخاص المستخدمون لهذه المنشآت. هذه السلبيات تتعلق بجانبين: الأول هو غياب الكودة البنائية UpToDate codes of practice المحدّثة من خلال التغذية الراجعة والخبرة العملية والتراكم المعرفي والتي تصحح الإجراءات وتحدث المواصفات والتفاصيل الفنية و الإدارية وتعالج الأخطاء والنواقص المتكررة في الأبنية سواء من الناحية الإنشائية أو الخدمية أو البيئية. أما الجانب الثاني فهو الضعف الواضح في حوكمة الإشراف الهندسي وسلامة بيئة العمل والذي يؤدي إلى حدوث خروقات تنفيذية تسبب الكثير من المشاكل الفنية الصغيرة وأحيانا الكبيرة والتي تشكل إزعاجا وقلقا لمستخدمي المباني ومثال ذلك ما حدث في قصة صفائح التنك التي تم اكتشافها في جدران البناية السكنية آنفة الذكر.

كيف نسيطر على المخالفات الإنشائية؟

إن التلاعب في حشوة الجدار وعدم سقي الباطون وغيرها من المخالفات الإنشائية الغير محسوسة تتم بسبب الإهمال أو التكاسل وهو فعل شنيع يرتكبه بعض العمال مع الأسف بسبب الجهل المتزامن مع ضعف دائرة رقابة وسيطرة المقاول والمهندس المشرف واعتمادها على أدوات يمكن بسهولة اختراقها أو التنصل منها. هذا التلاعب أو المخالفة لا يمكن الحد منه أو السيطرة عليه إلا من خلال إحكام منظومة الإشراف الهندسي والسلامة العامة وحوكمة الإجراءات الرقابية لأعمال البناء بشكل يمنع المقاولين وعمالهم من تنفيذ الفقرات الإنشائية بدون رقابة فاعلة ذات صلاحيات واضحة وإجراءات موثقة يتحمل من خلالها المقاول والمهندس المشرف ومراقبو العمل المسؤولية الكاملة على ما يجري في موقع البناء. والحديث هنا يدور على الفقرات المخفية وليس التشطيبات الظاهرة التي يتم الاعتناء بها لأسباب واضحة و معروفة.

شعور البعد عن المساءلة سبب في إساءة التصرف

وأنا أعتقد بأن شعور بعض أطراف المعادلة الإنشائية أنهم بعيدون عن المساءلة فيما يحدث من النواقص والخلل في المباني التي قاموا بتنفيذها يجعلهم يتكاسلون عن أداء دورهم المطلوب ويتركون الأمور التنفيذية الصغيرة لمزاج عمال التنفيذ بكافة مستوياتهم وعلى اختلاف وعيهم وخبرتهم وبالتالي تصبح الجودة مسألة عشوائية ومزاجية يرسم معالمها أحيانا ضمير حارس أو عامل بسيط قد لا يفقه حجم الضرر الكبير الذي ينجم عن سوء تصرف يراه صغيرا وغير محسوس.

الإشراف الهندسي "شكلي"

وتجدر الإشارة إلى أن نقابة المهندسين اتخذت إجراءات لحوكمة آلية تعيين المهندسين في المشاريع وطريقة استلام أجورهم، و لكنها -أي النقابة- برأيي قد غفلت عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتفعيل دور المهندس ومسؤوليته في الموقع، مما جعل الإشراف الهندسي يأخذ منحى بروتوكوليا شكليا مفروضا قسرا على المشاريع بدون أن يكون له نفع حقيقي في ضمان حسن التنفيذ ومطابقة المواصفات وسلامة بيئة العمل.

إن إصلاح واقع العمل الإنشائي وتفعيل دور مهندسي الإشراف مناط بكل أطراف المعادلة (الجهات الرسمية الفنية والنقابية والمكاتب الاستشارية وأصحاب المشاريع وشركات المقاولات والمهندسين أنفسهم) لحوكمة العمل الإنشائي ومنظومة الإشراف الهندسي وضبط الجودة وحماية حقوق المستخدم النهائي لأن هذا الإصلاح سيفسح الطريق لازدهار هذا القطاع الاقتصادي المهم ويشجع المستثمرين على المضي في إقامة المشاريع الإنشائية دون خوف أو وجل من الوقوع في مشاكل فنية وهندسية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

وحتى ذلك الحين ستبقى منشآتنا عرضة للتجاوزات الفنية والحوادث المؤسفة التي يدفع ثمنها المواطنون ويتحمل وزرها القائمون على هذه المشاريع.

الأكثر قراءة
00:00:00