أعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي صباح اليوم الأحد إغلاق المسجد الأقصى المبارك بعد أيام فقط من إعادة فتحه بشكل جزئي أمام المصلين، وذلك ضمن
الهيكل المزعوم خرافة صهيونية تلقي بظلالها على الأقصى..ماذا تعرف عنه؟

تعد قضية الهيكل المزعوم من أخطر تجليات العدوان الصهيوني على المسجد الأقصى المبارك، فهي ليست نزاعًا دينيًا مشروعًا بين طرفين، وإنما ادعاء استيطاني يستهدف أحد أهم المقدسات الإسلامية، ويقوم على سردية توراتية لا تستند إلى دليل أثري أو شرعي معتبر.
فالمسجد الأقصى المبارك، بجميع أبنيته وساحاته ومصلياته فوق الأرض وتحتها، هو وقف إسلامي خالص منذ الفتح العمري للقدس عام 15 هـ، وقد ظل كذلك عبر العصور، ولا يملك فيه حقًا إلا المسلمون.
ما هو الهيكل الذي تزعم إسرائيل وجوده؟
أما ما يُعرف بـ"الهيكل"، فهو مفهوم ديني يهودي غامض ومتنازع عليه تاريخيًا وأثريًا، وقد تم استغلاله منذ تأسيس الحركة الصهيونية في القرن العشرين لتبرير مخطط تهويدي يهدف إلى تفريغ القدس من هويتها الإسلامية والعربية، وفرض سيادة يهودية على الأقصى، بما في ذلك هدمه لإقامة ما يسمى "الهيكل الثالث".
الهدف النهائي لتكريس التهويد على كامل التراب الفلسطيني، وقد قال ديفيد بن غوريون المؤسس السياسي للكيان المؤقت بعد انتهاء حرب 1967،
"لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
وبناء على ذلك جرت منذ 1920 تحركات عدة لهدم المسجد الأقصى، حيث تزعم "الأصولية الصهيونية " أنه أقيم على أنقاض الهيكل المزعوم، كما أكد الحاخام "إبراهيم اسحق لوك" ضرورة تهويد المسجد الأقصى. ولأنه يقوم على "قدس الأقداس" بحسب "كلوزنر" أحمد ممثلي الحركة الصهيونية العالمية في عام 1929. وبحسب المؤرخ الإسرائيلي "إسرائيل إلداد" – في أعقاب حرب حزيران 1967 الذي قال:
"لأننا اليوم نمر في مرحلة مماثلة لتلك المرحلة التي حرر فيها داوود القدس، ومنذ ذلك الوقت وحتى قيام سليمان ببناء الهيكل مر جيل واحد، وسيكون الأمر مماثلاً بالنسبة لنا في هذه المرحلة من تاريخنا"..
في هذا التقرير نفصل محاور المشروع التهويدي، ونستعرض مراحل المخطط، وخلفياته الأيديولوجية، لكشف الأدوار الفاعلة من جماعات "الهيكل" والمنظمات الصهيونية المتطرفة، ودعم حكومات الاحتلال المتعاقبة، في ظل تقاعس عربي وإسلامي وتواطؤ دولي.
أولًا: خلفية دينية وتاريخية حول المسجد الأقصى
المسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد بارك الله ما حوله في القرآن الكريم، وأُسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إليه، ومنها عرج إلى السماء. يمتد المسجد على مساحة 144 دونمًا ويضم المصلى القبلي، وقبة الصخرة، والمصلى المرواني، وباب الرحمة، وساحات متعددة.
الموقع لم يكن في أي يوم من الأيام معبدًا لليهود كما تدعي الرواية الصهيونية، بل إن ما يسمى بـ"الهيكل" لا يوجد عليه أي دليل أثري مثبت علميًا في باطن المسجد الأقصى، رغم الحفريات الإسرائيلية التي استمرت لعقود.
ثانيًا: مفهوم "الهيكل المزعوم"
تزعم الجماعات الصهيونية المتطرفة أن المسجد الأقصى أقيم فوق أنقاض "هيكل سليمان"، وهو بحسب ادعائهم المعبد الذي كان قائمًا في عهد النبي سليمان عليه السلام، وأنه دُمر مرتين، ويجب إعادة بنائه في ذات الموقع.
يؤمن التيار الديني اليهودي أن الهيكل كان مقامًا في القدس، ويزعم أغلبهم أن موقعه تحديدًا يقع في مكان المسجد الأقصى الحالي، وخاصةً في منطقة قبة الصخرة، ويعتبرون أن الهيكل دُمّر مرتين، الأولى على يد البابليين عام 586 ق.م، والثانية على يد الرومان سنة 70م، وينتظرون بناء الهيكل الثالث باعتباره شرطًا لعودة "المسيح المنتظر في العقيدة اليهودية".
لكن هذا الادعاء لا يستند لأي دليل أثري، إذ لم تنجح أكثر من 63 بعثة تنقيب إسرائيلية ودولية منذ عام 1967 وحتى اليوم في إثبات أي أثر يُنسب لما يسمى الهيكل في باطن المسجد الأقصى. ورغم ذلك، تحوّل هذا الادعاء إلى مشروع سياسي يهدف لشرعنة اقتحام المسجد، وتكريس السيادة اليهودية عليه، تمهيدًا لتقسيمه أو هدمه.
لا توجد أي وثيقة أثرية أو نقش أو أثر معماري يمكن الاعتماد عليه لإثبات وجود الهيكل في موقع الأقصى. بل إن المؤسسة الأثرية الإسرائيلية الرسمية لا تستطيع حتى اليوم الجزم بمكانه، وتكتفي بـ"الاحتمالات".
وقد عبّر عن هذا الخلاف بوضوح المؤرخ الإسرائيلي “زئيف هيرتسوغ” في مقال نشره في صحيفة هآرتس عام 1999 بعنوان: "لم يكن هناك شيء كما نعتقد"، أكد فيه أن قصص الهيكل وسليمان والملك داود هي أدبيات توراتية دون أساس تاريخي مثبت.
في الفكر الديني اليهودي، يُمثّل الهيكل مركز العالم، ومكان اللقاء بين الإله وشعبه المختار، ومحل تقديم القرابين. ومع تدميره، نشأت فكرة "الحنين" إلى إعادة بنائه، خاصة في التيارات الحاخامية المتطرفة التي تعتبر أن العودة السياسية إلى أرض فلسطين غير مكتملة دون إقامة الهيكل.
ثالثًا: المشروع التهويدي وخطوات تنفيذه
منذ احتلال القدس عام 1967، بدأ الاحتلال بمشروع تهويد المسجد الأقصى عبر خطوات تدريجية، نذكر أبرزها:
-
الحفريات أسفل المسجد:
تم حفر أكثر من 60 نفقًا تحت أساسات الأقصى بزعم البحث عن آثار الهيكل و تسببت الحفريات بتصدعات خطيرة في البنية الإنشائية للمسجد وساحاته، خصوصًا في الجهتين الجنوبية والغربية.
-
اقتحامات المستوطنين والجماعات المتطرفة:
منذ عام 2003، سمحت شرطة الاحتلال باقتحامات شبه يومية للمستوطنين، بحماية أمنية، تُنفذ هذه الاقتحامات بقيادة "جماعات الهيكل" المتطرفة، والتي تؤدي طقوسًا توراتية داخل الأقصى.
-
محاولات التقسيم الزماني والمكاني:
يسعى الاحتلال إلى فرض تقسيم زماني شبيه بما حدث في الحرم الإبراهيمي بالخليل، يبدأ ذلك بتخصيص أوقات معينة لاقتحامات اليهود، ثم يُتبع بتقسيم مكاني دائم.
-
إغلاق أبواب المسجد والتحكم في إدارته:
أغلقت سلطات الاحتلال العديد من أبواب المسجد، وتمنع حراس الأوقاف من التدخل، كما تسعى إلى نزع السيادة الأردنية عليه، رغم الوصاية الرسمية التي تمثلها وزارة الأوقاف الأردنية.
-
سنّ قوانين تهدف للسيطرة على الأقصى:
تعمل أحزاب اليمين المتطرف في الكنيست على تشريع قوانين تتيح "الصلاة اليهودية" في الأقصى، يتم الدفع بمقترحات تهدف لإلغاء الحصرية الإسلامية على المسجد.
رابعًا: الجماعات والمنظمات الداعمة لمشروع الهيكل
هناك أكثر من 30 منظمة صهيونية تعمل لإعادة بناء "الهيكل"، أبرزها:
-
"معهد الهيكل الثالث" الذي يقوم بإعداد أدوات الهيكل وتدريب الكهنة.
-
جماعة "نساء لأجل الهيكل".
-
"طلاب لأجل الهيكل.
-
"أمناء جبل الهيكل".
تعمل هذه الجماعات على الحشد الإعلامي، وتنظيم اقتحامات، والتأثير على السياسات الحكومية، وتشكيل لوبي ضاغط في الكنيست.
خامسًا: البعد السياسي والدعم الحكومي
تحوّل هذا المشروع إلى أداة في الصراع السياسي داخل "إسرائيل"، حيث تتنافس الأحزاب اليمينية على نيل دعم المستوطنين من خلال تبني سياسات تصعيدية تجاه المسجد الأقصى.
وفرت حكومات الاحتلال المتعاقبة، وخاصة في عهد نتنياهو، غطاءً قانونيًا وسياسيًا لهذه الجماعات. كما يتم إشراك عناصر من الجيش والشرطة في تدريبات لاقتحام الأقصى وتأمين المقتحمين.
سادسًا: ردود الفعل العربية والإسلامية والدولية
رغم خطورة المشروع، فإن الردود العربية والإسلامية لا تزال دون المستوى، وتكتفي ببيانات الشجب دون اتخاذ خطوات ملموسة لحماية المسجد الأقصى. كما تغض كثير من المؤسسات الدولية الطرف عن الانتهاكات اليومية.
أما على المستوى الشعبي الفلسطيني، فقد شكّلت هبّات القدس في الأعوام (2015، 2017، 2021) نماذج مشرّفة في الدفاع عن الأقصى، وكان أبرزها هبّة باب الأسباط، وهبة البوابات، وهبة سيف القدس التي توحدت فيها ساحات المقاومة.
إن مشروع "الهيكل المزعوم" ليس مجرد خرافة دينية بل هو أداة استعمارية تهدف إلى محو الهوية الإسلامية للمسجد الأقصى، وتحويله إلى معلم يهودي، كجزء من مخطط تهويد القدس بالكامل.
وواجب الأمة اليوم – شعوبًا وحكومات – أن تتحمل مسؤولياتها في الوقوف أمام هذا المشروع، بكل الوسائل الممكنة، وعلى رأسها تعزيز الوعي، والمقاومة الشعبية، والتحرك الدبلوماسي، والضغط القانوني والسياسي.