وصل البابا فرانسيس يوم أمس إلى كندا، في رحلة تستغرق أسبوعا، للاعتذار عن الإساءات التي مارسها قساوسة وراهبات من الروم الكاثوليك بحق أطفال من
الكرسي الشاغر في الفاتيكان: كيف يتم اختيار البابا الجديد؟

تفتح وفاة بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية، صفحة من الطقوس التي تمزج بين الرمز الديني، والبروتوكول السياسي المعقد، والتقاليد التي تعود قرونا إلى الوراء. في هذا التقرير، نرصد كل تفصيلة من لحظة إعلان الوفاة إلى دفن الجثمان، ثم مرحلة الحداد، فالكونكلاف السري الذي يفضي إلى انتخاب البابا الجديد.
في صباح الحادي والعشرين من نيسان، توقف قلب الزعيم الروحي لأكثر من مليار كاثوليكي حول العالم. توفي البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عاما، بعد يوم واحد فقط من ظهوره في ساحة القديس بطرس بروما صبيحة عيد الفصح.
كان فرنسيس قد أصيب بسكتة دماغية مفاجئة، وفق ما أعلنته الفاتيكان.
فرنسيس، الذي ولد باسم خورخي ماريو برغوليو في بوينس آيرس، الأرجنتين، عام 1936، كان أول بابا من خارج أوروبا منذ أكثر من 1200 عام، وأول بابا من أمريكا اللاتينية. اعتلى الكرسي الرسولي في عام 2013 بعد استقالة بنديكتوس السادس عشر، ليبدأ فصلا جديدا عنوانه: التواضع، والانفتاح، والرحمة.
كيف يعلن رسميا موت البابا؟
الموت في الفاتيكان لا يعلن ببيان صحفي بسيط. وفق التقليد الكنسي القديم، يقترب الحاجب البابوي الخاص من جثمان البابا ويناديه ثلاث مرات باسمه ثم يطرق جبهته بلطف بمطرقة فضية صغيرة، وإذا لم يستجب، يعلن بصوت عال: "البابا مات حقا" (Vere Papa Mortuus Est).
تتلى في هذا الإعلان طقوس تقليدية عريقة، أبرزها تلاوة "مزمور التوبة" (مزمور 130): "من الأعماق صرخت إليك يا رب..."، بينما يركع الحضور للصلاة، وتغطى ملامح البابا بحجاب أبيض، استعدادا لمرحلة تأمل وصلاة تسبق إجراءات الجنازة.
ماذا عن التحنيط؟ هل لا يزال معمولا به؟
كانت الطقوس القديمة تقضي بتحنيط جسد البابا خلال 24 ساعة من الوفاة، بعد استخراج الأعضاء الداخلية ودفنها في أوعية فخارية بمدينة تريفي. يلبس الجثمان بعد ذلك ثوبا أبيض من الصوف ووشاحا أحمر وقبعة "الكامورو" الحمراء.
لكن هذه الممارسة توقفت منذ وفاة يوحنا الثالث والعشرين عام 1965. اليوم يستخدم الفورمالين لحفظ الجسد مؤقتا، دون إخضاعه لعملية تحنيط كاملة.
كيف تتم مراسم الجنازة والحداد؟
بعد اليومين الأولين، ينقل الجثمان إلى كاتدرائية القديس بطرس، حيث يعرض لثلاثة أيام لتوديع الجماهير القادمة من كل أصقاع الأرض. يتواصل الحداد الرسمي تسعة أيام، تعرف باسم "نوفيمدياليس"، وتقام خلالها صلوات يومية بحضور شعبي.
في اليوم التاسع، يقام القداس الجنائزي الضخم في ساحة القديس بطرس، ويترأسه عميد مجمع الكرادلة. يدفن البابا عادة قرب ضريح القديس بطرس، إلا إذا أوصى بدفن مختلف.
هل غير البابا فرنسيس شيئا من هذه الطقوس؟
نعم، ففي تشرين الثاني 2023، أصدر البابا توجيهات جديدة تهدف إلى تبسيط مراسم الدفن وترسيخ روح التواضع. ومن أبرز التغييرات:
-
إلغاء استخدام ثلاثة توابيت (من السرو، الرصاص، البلوط)، والاكتفاء بتابوت خشبي مغطى بالزنك.
-
السماح بدفن البابا خارج كاتدرائية القديس بطرس، وهو أمر غير مسبوق منذ أكثر من 300 عام.
-
أوصى البابا فرنسيس بأن يدفن في كاتدرائية مريم الكبرى في روما، التي كان يزورها قبل وبعد كل رحلة رسولية.
فترة "الكرسي الشاغر": حين يصمت الصوت الأعلى في الكنيسة
مع وفاة البابا، يبدأ تلقائيا ما يعرف في الفاتيكان بـ"الكرسي الشاغر" أو Sede Vacante، وهي فترة لا يكون فيها أي بابا على رأس الكنيسة. خلال هذه المرحلة، تتوقف جميع المهام البابوية، وتسند السلطة الإدارية المؤقتة إلى الكاردينال المسؤول عن إدارة شؤون الكرسي الرسولي، والمعروف بلقب "الكاميرلينغو".
لا يسمح بأي قرارات كبيرة خلال هذه الفترة، وإنما يركز العمل على التحضير لانتقال السلطة، وترتيب مراسم الدفن، والبدء بإجراءات انتخاب البابا الجديد.
الحداد والمراسم: 9 أيام من الصلوات والصمت
بموجب التقليد الكاثوليكي، تبدأ novendiales، وهي تسعة أيام من الحداد والصلوات تقام في الفاتيكان تكريما لحياة البابا الراحل، خلال هذه الأيام، تعقد القداديس والصلوات العامة والخاصة، وتنكس الأعلام، ويستقبل كبار رجال الدين والزعماء من أنحاء العالم لتقديم العزاء.
الدفن يتم عادة في سرداب كاتدرائية القديس بطرس، إلى جانب أسلافه من الباباوات، وسط أجواء وطقوس دينية.
الكونكلاف: كيف ينتخب البابا الجديد؟
بعد مرور ما بين 15 إلى 20 يوما على الوفاة، تعقد جلسات مغلقة تعرف باسم "الكونكلاف" لانتخاب البابا الجديد.
من هم الكرادلة؟ وما دورهم؟
الكرادلة يعرفون بلقب "أمراء الكنيسة"، يرتدون زيًّا أحمر ويمنحون مناصب كنسية رفيعة. لهم الحق الحصري في انتخاب البابا. ويجتمعون خلال الكونكلاف لاتخاذ القرار الأهم في حياة الكنيسة.
البابا فرنسيس عين نحو 80% من الكرادلة الحاليين، ما يعني أن خياراتهم تعكس توجهاته التقدمية.
من يشارك في التصويت؟
يضم الكونكلاف ما يصل إلى 120 كاردينالا ممن تقل أعمارهم عن 80 عاما. هؤلاء ينتخبون من بين أكثر من 250 كاردينالا، جميعهم رجال، غالبيتهم من أوروبا، رغم أن البابا فرنسيس حاول تنويع الخريطة الجغرافية من خلال تعيينه 21 كاردينالا جديدا عام 2024، من قارات مختلفة، كثير منهم يحملون توجهات إصلاحية ومواقف منفتحة تجاه قضايا مثل المساواة والاندماج.
أين يتم الانتخاب؟
الانتخاب يتم في كنيسة السيستين، بعد أن يؤدي الكرادلة قسم السرية الكاملة. لا يسمح بأي تواصل خارجي. يقيمون خلال تلك الأيام في بيت "سانتا مارتا"، وهو المبنى الذي اختاره البابا فرنسيس للإقامة بدل الشقق البابوية الفاخرة.
كيف يتم التصويت؟
توزع بطاقات التصويت المكتوب عليها عبارة "أنتخب كحبر أعظم"، ويدلي كل كاردينال بصوته سرا. تجمع الأصوات في أوعية خاصة، ثم تفرز من قبل لجنة مكونة من ثلاثة كاردينالات يختارون عشوائيا.
لا ينتخب البابا إلا إذا حصل على ثلثي الأصوات، وإذا لم يتحقق ذلك بعد عدة جولات، يتم اعتماد تصويت نهائي بين أعلى مرشحين، بشرط أن يمتنع كلاهما عن التصويت، وتطلب أغلبية الثلثين.
إشارات الدخان: كيف يعرف العالم؟
بعد كل جولة تصويت، تحرق أوراق الاقتراع ويصدر دخان من مدخنة كنيسة السيستين:
-
دخان أسود: لم ينتخب بابا جديد بعد.
-
دخان أبيض: لدينا بابا جديد!
نهاية الانتظار: لحظة الإعلان الكبرى
ما إن يُنتخب البابا، يُسأل عما إذا كان يقبل بالمهمة، ثم يختار الاسم الذي سيتخذه. بعد ذلك، يرتدي الحلة البابوية البيضاء، ويخرج إلى شرفة كاتدرائية القديس بطرس، حيث يعلن الكاردينال الأكبر: "لدينا بابا" "Habemus Papam".
في تلك اللحظة، يطل البابا الجديد على العالم، ليبدأ عهدا جديدا، محملا بتحديات روحية وسياسية واجتماعية لا تنتهي.
اقرأ المزيد.. اعتذار عن إساءات ارتكبها قساوسة بحق آلاف الأطفال