الأستاذ عبد المجيد الذنيبات كما عرفناه
بقلم: م. حسان أحمد الذنيبات
أكتب اليوم عن فضيلة الأخ الكبير عبد المجيد الذنيبات "أبو محمد" وقد رحل إلى ربه سبحانه وتعالى، وأنا إذ اكتب انطباعاتي الشخصية عن هذه القامة أعلم أنه ونحن جميعا بشر نخطئ ونصيب و لدينا عثرات وكل بني آدم خطاء.
لقد عرفت أبا محمد منذ طفولتي وقد كان أستاذي في مدرسة الجديدة الأساسية وأنا في بداية دراستي وكان له مكانة مميزة بين جميع أساتذتنا فهو شخصية معروفة لدى جميع أبناء القرية بحديثه الدائم عن العلم والتعلم وحرصه عليه ولا تزال في مخيلتي صورته ونحن نشاهده يقرأ خارج المنزل ونحن أطفالا صغارا ولعله حينها كان في بداية دراسته الجامعية بالمراسلة.
من هو عبد المجيد الذنيبات
عاش عبد المجيد الذنيبات يتيما بعد فقدان والده وهو صغير لم يبلغ سنوات معدودة وعاش في كنف عمه محمود (والد الدكتور محمد) ثم انتقل بعد عدة سنوات عمه إلى الدار الآخرة ليعيش اليتم من جديد وهو لا يزال في بداية طفولته.
وكان كثيرا يحدثنا أبو محمد عن طفولته ويثني كثيرا على الرجال من القرية باسمائهم ممن كانوا يحسنون إلى ذلك الطفل اليتيم بكلمة طيبة و بشيء من الحنان والعاطفة فكان وفيا –رحمه الله- إلى كل كلمة إحسان سمعها في طفولته.
التعليم المدرسي والجامعي
كانت هذه النشأة القاسية سببا في حرصه على إكمال التعليم المدرسي، وبعد إنهاء الثانوية وتعيينه في التربية لم يتوقف عن طلب العلم فبادر إلى التسجيل في جامعة دمشق ليحصل على ليسانس في القانون، وبعد أن تخرج من هناك انتقل إلى مجال المحاماة التي أبدع فيها.
كما كانت عادته وليصبح من أشهر محامي الكرك ولعله في تلك الفترة المبكرة تعرف على دعوة الإخوان المسلمين من خلال قراءة كتابات ومذكرات الدعاة، ومن أبرزها كتابات الأستاذ يوسف العظيم رحمه الله.
عبد المجيد الذنيبات في مجال الدعوة
ولأنه رجل عملي يبني على قناعاته التي شكلها حول أفكار الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى فى ضرورة استبقاء العمل الإسلامي في مجتمعاتنا كان كما يقول عن تلك المرحلة (في الكرك كانوا ثلاثة وقررت أن أصير رابعهم)، ولتنمو الدعوة وليشكل مع مجموعة من الرواد والشباب لوحة الدعوة في الكرك والطفيلة التي كانت تتبع إداريا للكرك، ولينتقل هؤلاء الشباب في مساجد الكرك والطفيلة يحدثون الناس عن الإسلام وهذا ما اكسبهم الكثير من الاحترام.
وقد عرفتهم المنابر في المساجد النائية وعرفهم الناس دعاة إلى الله (ومن هؤلاء الأستاذ جمال الحوامدة وأبو عزام وعادل الرواشدة ومحمد زين أبو الفيلات وغيرهم) وكانت فترة ما قبل السبعينيات من المراحل العصيبة على الدعوة بعد أن ضربت في مصر بصورة لا يتخيلها العقل وحينها تلقى أبو محمد وإخوانه كتابات الأستاذ سيد قطب وصاروا يقرأوها بنهم شديد فأعجب بسيد أشد الإعجاب، وهذا ما دفع الشاب عبد المجيد في بداية زواجه من ابنة عمه المرأة الفاضلة "أم سيد" وهو اللقب الذي اختاره الأستاذ عبد المجيد الذنيبات إعجابا بسيد قطب ومواقفه وشجاعته.
عبد المجيد الذنيبات مع أسرته
لم يكتب الله للأستاذ عبد المجيد الذنيبات الأبناء من زوجته الأولى التي عرفها وأحبها وأكرمها، وقد ذهب إلى كل مكان لعله يرزق منها بطفل يملئ عليه حياته ويشاء الله بعد سنوات طويلة زادت على العشر سنوات رزق بطفلة جميلة حدثتني والدتي عنها، ولكنها لم تعيش إلا بضعة أشهر بعد حادث اصطدام أليم لسيارة الأستاذ وهو يقودها لتقفز الطفلة من شباك السيارة وتموت من ساعتها وتنتقل إلى رحمة ربها.
بعد سنوات وبنصح من أخوة اشفقوا على حاله أن يتزوج من فتاة من عشائر الطفيلة الكرام ليرزق منها بابنائه وبناته لكنه أبدا لم يتخلى عن زوجته الأولى بل كان يقدرها ويحترمها بصورة قل نظيرها عند الأكثر ممن ينحازون إلى "أم العيال" فكان مثالا في إحترام الزوجة الأولى دون أن يكون ذلك تقليل من مكانة أم العيال.
الكثير من الفقد عاشه الأستاذ عبد المجيد الذنيبات في حياته وشبابه بل في طفولته؛ فبعد أن فقد والده وعمه فقد أخاه الأكبر عبد الكريم وبعد سنوات فقد أخا آخرا وهو أحمد ولكنه كان رغم انشغالاته وصولا بابناء إخوانه الأيتام عطوفا عليهم عوضهم عن فقده آبائهم، وكنا نشاهد هذا العطف وهذا الحنان لا يخفى علينا.
عبد المجيد الذنيبات كان مثالا في الصبر على كل ما حلّ به من فقدان الوالدين والإخوان والحرمان لسنوات من الذرية الأبناء وحالة الضيق التي عاشها في بداية طريقه ولكننا لم نسمع منه يوما يشكو أو يتبرم أو يتحدث عن هذه الأمور، ومثل ذلك كان مثالا في حفظ اللسان ولم نسمع منه في حياته ذما أو قدحا لأحد من الناس حتى عندما يخبره أحد أن فلان يسيء لك يلوذ بالصمت الجميل ولا يتكلم.
فقد كان رحمه الله قادرا على ضبط عواطفه ونزواته، فكان قليل الكلام يستمع للآخرين ويهتم بآراء الجميع حتى من يصغرونه سنا خبرة وتجربة.
المراقب العام للإخوان المسلمين
عشت معه في الهيئة الإدارية لشعبه الكرك منذ عام 1984 حتى أصبح مراقبا عاما للإخوان المسلمين وكنّا شبابا في غاية الحماسة والاندفاع وكان يستمع لنا ويحترم آراءنا ويبارك جهودنا ويعيننا على المعوقات التي تواجهنا؛ فهو واجهة العمل وبيته كان مكان الاجتماع وكان مقرا لاستقبال الضيوف وكان معطاء يكرم من يأتيه دون حساب، وفي العيد وبعد الصلاة يكون الإفطار حاضرا في بيته لنا جميعا ثم الجلوس للحديث في خطة الدعوة بهذا العيد.
وكذلك الأطفال لا ينساهم من كرمه فكان جيبه ممتلئا بالنقود والدنانير التي يوزعها على من يراه من الأطفال، فكان مصدر فرح لهؤلاء الأطفال من أبنائنا لا يزالون يذكرونها منه.
فإذا واجهتنا مشكلة مالية لأحد الإخوة نفزع إلى أبي محمد فكان جيبه مفتوحا لكل أخ من إخوانه يغطي ما يلزم دون ضمانات أو سؤال مفصل مما يجري بين الناس في معاملاتهم عادة.
استمر أبو محمد في سيرته من نجاح إلى نجاح وكان دائما محل إجماع من كل الأطراف التي يعمل معها فهو متوازن صبور خلوق صاحب همة.
كان نائبا لشعبة الكرك منذ أن تكونت حتى انتقل إلى عمان ليكون نائبا للمراقب العام، ومن ثم مراقبا عاما للجماعة وخلال تلك الفترة كان ممثلا لشعبة الكرك في مجلس الشورى.
وكان نعم من يمثلها في مواقفه وإلتزامه وكان أقل الناس حديثا عن الخلاف ولا يذكر أنه نقل خلافا بين القيادة من عمان إلى القواعد في الكرك.
الصبر والحلم والأدب صفات يتحلى بها
كان عبد المجيد الذنيبات يتصف بصفات أهمها وأبرزها الصبر والحلم والأدب وحسن الخلق؛ فقد كان أبو محمد أخ العشيرة المحبة لها الحريص عليها وعلى حل مشاكلها وكان دوره دائما بما يسهم في المحافظة على لحمتها؛ فقد قدمه أهله في القرية إلى الإنتخابات التكميلية عام 1984، والتفت حول ترشحه عشائر مختلفة في الكرك فكان قاب قوسين أو أدنى من النجاح، وفي المرات التي تلت قاد الشعبة في انتخابات 89 حتى استطاعت الجماعة الفوز فوزا كبيرا بغالبية أعضاء الكتلة التي تشكلت بإدارة أبو محمد وتوجيهاته؛ فهو قانوني فذ و سياسي بارع يحسن التفاوض والاقناع.
أحببته وأعلم أنه يحبني على المستوى الشخصي رغم فارق السن والقدر؛ فقد كان يستمع إلى كلامي ويحترمه.
أحببناه فهو الرجل الكريم الشهم الذي ظل بيته مفتوحا لضيوف الأردن وظل ماله موقوفا لأعمال الإحسان والدعوة، وفي كل فزعة خير و ظل قلبه مستوعبا لمن أساء له واختلف معه ولا عجب؛ فقد كان معلما في بدايته يعلم الأطفال الصلاة والقرآن ويذكره الآلاف ممن تعلموا على يديه أركان العبادات في الكرك.
ستظل ذكراه الطيبة حاضرة في من عرفه عن قرب وعن صدق ومواقفه الأصيلة مشهودة معروفة ولا يضرنا اختلاف في رأي أو اختلاف في اجتهاد .
هو الآن عند رب رحيم يعلم السر وأخفى، والله نسأل أن يجازيه بالإحسان احسانا ورفعة في المنزلة والأجر وبالسيئات عفوا وغفرانا وتجاوزا.
لقد كان بلا شك صاحب شخصية مستقلة لا تحركه أهواء الآخرين فكان سياسيا يحسن التعبير عن موقف جماعته، وكان إداريا حفظ وحدة مؤسسته في أحلك وأصعب الظروف واستوعب التنوع داخلها، وكل ذلك بحسن إدارته فكان عهده إزدهارا ونماء وانتشارا للعمل الدعوي والإسلامي.
وفي الجانب الشخصي كان رحمه الله نموذجا للنجاح لنا كشباب في محافظة في جنوب الأردن حيث بدأ الأستاذ عبدالمجيد عصاميا في طريق النجاح وقد بنى نفسه وخط تجربته الثرية في العمل العام من الصفر ومن اليتم المبكر.
لقد بلغ أبو محمد كل ما يمكن أن يطمح له في دنيا الناس من مواقع وألقاب، وقد كان قائدا لأكبر جماعة إسلامية تفهم الإسلام فهما شاملا وتعمل في مختلف الميادين وتنتشر في الجامعات وفي ساحات العمل الخيري والتربوي والسياسي، حيث انتخب مراقبا عاما لجماعة الإخوان المسلمين لعدة دورات وصار بعدها عضوا في مجلس الأعيان فضلا عن العلاقة المباشرة والمستمرة التي تميز فيها مع ملوك الأردن وقياداته؛ فكان جوابا عمليا يحتاج دراسة معمقة لفكرة المزاوجة بين الإيمان الديني العميق والحرص على الدعوة الإسلامية وبين الانتماء للوطن ومصالحه والنصح الصادق لحكامه في تجربة مميزة وفريدة.
لقد مرت السنوات في حياة الأستاذ وظلت مبادئه وطريقته ثابتة هي هي لمن يعرف بداياته، وهذا منذ التزامه في شبابه وفعلا كان قائد الحركة الإسلامية في الكرك منذ العام 1968، وخلال تلك المسيرة كان له اجتهادات كثيرة يختلف معها البعض ويتفق معها آخرون كحال الدنيا واجتهاداتها، ولكن التزامه الديني في بيته وفي معاملاته الخاصة كما هو منذ أن كان يعلم الأطفال شروط الطهارة والصلاة في مدرسة الكرك.
نعم أحببناه ونترحم عليه وندعو له بالرحمة والمغفرة والعتق من النار وهو عند ربه الكريم. وداعا أبا محمد ورحمك الله رحمة واسعة.