الانتماء وجذور الأمل

الصورة

وردتني تعليقات على مقالتي بخصوص حوكمة الإشراف الهندسي وكان أغلبها من أصحاب مكاتب هندسية وأصحاب مشاريع، وجميعهم يشتكي من ضعف الكوادر الهندسية أداءً وفاعليةً ويعاني من الشعور العام بضعف انتماء الموظفين للعمل وحالة اللامبالاة وعدم الاكتراث التي تلمسها الإدارات العليا لدى الكوادر العاملة في المستويات الأدنى في الإشراف والمتابعة.

فالسيناريو الشائع الذي تردده الإدارات هو أننا نرى الشاب الباحث عن عمل يحصل على الوظيفة بشق الأنفس، ولكن بمجرد أن يستقر به الحال في موقعه الوظيفي نجده يبدأ بالتطلع إلى امتيازات أكبر وفي كثير من الأحيان يعكف على البحث عن فرص أخرى أفضل لاغيا من باله التفكير بمصلحة عمله الحالي وتطويره وإنجاحه ليكون مكانا أفضل وأكثر جدوى.

دعونا ننظر للصورة كاملة

هذه الصورة بالتأكيد ليست عامة ولا تمثل إلا وجها واحدا من المسألة لأنها لا تتطرق إلى ظروف العمل المتاح ومستوى المردود المادي لهؤلاء الموظفين ومدى حرص الإدارات العليا على توفير البيئة الصالحة للأداء الأمثل وكل ذلك بلا شك له تأثير سلبي على الأداء، ولكنه لا ينبغي أن يكون مبررا للتفريط بأمانة التكليف. كذلك، فإننا لا ننكر بأن الكثير من الشباب المقدم على سوق العمل يبحث عن الفرصة التي توفر له "على الجاهز" المدخول العالي وظروف العمل الأسهل، ويعتبر هذا الأمر حقا طبيعيا، بينما يراه الطرف الآخر من المعادلة -أي أرباب العمل والإدارات العليا– كعبء مفروض على عاتق المؤسسة أو المشروع لسد الفراغ على قدر الحاجة بأدنى مستوياتها.

علاقة غير متوازنة

أي أننا أمام علاقة غير متوازنة بين ثلاث أطراف، الأول "الإدارة" يريد (تسخير) الطرف الثاني لتحقيق مصلحته الذاتية، والثاني "الموظف" حاضرٌ بجسده في العمل بينما قلبه ونظره يتطلعان إلى فرصة الحصول على مدخول أفضل (وليس عملا أفضل!!) والمتضرر الحقيقي هو الطرف الثالث أي "العمل ونتائجه" المتضررة بسبب عدم الاكتراث وإهمال قيمة الإحسان لتكون المحصلة خسارة مشتركة لجميع الأطراف ونفرة تعاكس الانتماء وتضعف جذوته.

انتماء منقطع النظير

في المقابل أستحضر صورة معاكسة تعود إلى العراق في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، لنرى كوكبة علمية من خيرة الشباب آنذاك والذين تغربوا ودرسوا الهندسة و العلوم الأخرى في أميركا وبريطانيا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي وعادوا "جميعهم" بلا استثناء إلى بلدهم بدون تردد أو تأخير ليلتحقوا بمشاريع البناء والإعمار التي عج بها العراق أيام الحكم الملكي الرشيد ومجلس الإعمار الذي تم إنشاؤه في أوائل الخمسينيات ليقوم برسم خطة إعمار طموحة ورائدة ويباشر في تنفيذها بكل جد واجتهاد لينهض بالعراق إلى مصاف الدول المتقدمة زراعيا وصناعيا.

لم التضحية بفرصة يتمناها كثيرون

وهنا يأتي التساؤل، لماذا عاد هؤلاء الشباب إلى مدن العراق المفتقدة حينها لكل أوجه التحضر والتقدم العمراني والاجتماعي وتركوا الغرب المزدهر والمترف بشوارعه ومبانيه ونواديه وراء ظهورهم ليلتحقوا بوظائف في شتى المدن والأرياف ويتقاضوا أجورا لا تشكل إلا جزءا يسيرا مما كانوا يتقاضونه في أميركا، بلد الحرية والعلم والازدهار والفرص الكبيرة؟!

أعتقد بأن الجواب واحد وإن تعددت طرق التعبير عنه.. إنه الانتماء المدعم بأمل المشاركة في بناء الوطن.. نعم، إنه الأمل الذي يحدد اتجاه البوصلة ويعزز الثقة في المستقبل ويربط على القلوب لتتجاوز الصعاب وتستحلي التضحيات.

الانتماء والأمل

علاقة الانتماء بالأمل تشابه إلى حد كبير قصة ارتباط الشجرة بالأرض، حيث أن هذا الارتباط يأتي بفعل الجذور الممتدة في باطن التربة، فكلما امتدت الجذور أكثر وتشعبت كلما زاد عطاؤها وكلما كانت الشجرة أكثر ثباتا وارتباطا بالأرض. بيد أن امتداد الجذور لا يأتي من فراغ، بل إنها تتحرك باتجاه التربة المحروثة والمهيأة والذي تأمل أن تجد الماء والغذاء فيه لكي تؤدي وظيفتها في نقل المؤونة إلى باقي أجزاء الشجرة وإن لم تجد هذا الأمل فإنها تنكمش على نفسها وتبقى قريب السطح تاركة الشجرة تتأرجح في مهب الريح.

كيف يُقتل الأمل وتنحسر الثقة

وبالعودة إلى الصورة المعاكسة نسترجع ما حدث في العراق بعد أن جاء حكم العسكر منتصف عام 1958 ليُهدم الاستقرار وتتعرقل مسيرة البناء وتنشغل البلاد بالصراعات العبثية على السلطة والانقلابات الدموية تاركة المشاريع التي قررها مجلس الإعمار طيب الذكر لعواهن الزمن، فلم ينفذ منها (خصوصا السدود المائية والمشاريع الزراعية والتنموية) إلا النزر اليسير رغم تنامي عوائد النفط وتزايد عدد السكان. فماذا كانت النتيجة؟! تراجع الأمل وانحسرت الثقة وانعكس اتجاه البوصلة، لنرى كفاءات العراق وفلذات أكباده تفر من أكنانها باحثة عن الأمل في بلاد الغرب البعيدة التي أقامت المشاريع ووفرت للجميع فرص المشاركة والتنافس فيها بعدالة وشفافية فكسبت انتماءهم واستثمرت عقولهم وخبراتهم ونجحت في إدماج الأغلبية الساحقة منهم في حركة المجتمع الدائرة في فلك عجلة البناء والازدهار، والأمثلة على ذلك كثيرة و قائمة إلى هذا اليوم في العراق وباقي بلادنا العربية.

العمل على الأرض هو ما يبني الأمل

وهكذا نجد الإنسان ينتمي ويلتصق، بل ويتغلغل في المحيط الذي يعيش فيه عندما يستشعر الأمل في المشاركة في دور ما في بناء هذا المحيط، حينئذٍ لن يحتاج إلى من يذكره بضرورة الانتماء لأن جذوره ستقوم بهذا الدور على أحسن وجه.

هذا الأمل في المشاركة في بناء المجتمع والوطن لا ولن يتحقق بالشعارات، بل بالعمل الواضح على الأرض من خلال إقامة المشاريع والخطط العملاقة المبنية على تخطيط سليم وشفاف بعيد المدى، يرى كل مواطن فيه دورا أو فرصة للمشاركة والنمو والازدهار مع الآخرين بكل عدالة وشفافية، فعند ذلك سنجد الكل يهرع (طبيعيا وفطريا) نحو ملء الفراغ والقيام بدوره الإنساني بلا أدنى تردد ولن يفكر بالهجرة أو ترك موقعه ودوره ومن أجل أجرٍ أعلى أو ميزات أكثر.

مسؤولية الجميع

كلنا معنيون بزرع الأمل في النفوس وإحياء قيمة التشارك، وتلك هي مهمة الجميع كقادة وأرباب على كل المستويات، من رب الأسرة في عائلته مرورا برب العمل في شركته، وحتى أعلى مراتب القيادة والإدارة وهو أمر يحتاج إلى قول وفعل ولا يحتمل التأخير فالأرض تهتز من تحت الأقدام وجيل الشباب الواعد الذي بذلنا كل ما في وسعنا لتربيته وتعليمه وتأهيله يتفلت من بين أيدينا فلا الجذور أمسكت ولا الشجرة أنبتت ولا العجلة دارت ولا عذر لنا أمام الله وتجاه الوطن في ذلك.

الأكثر قراءة
00:00:00