الاستثمار.. بين الدارج والمقصد

01:07 بتوقيت عمّان

ونحن في أجواء النقاش الدائر حول مشروع قانون تنظيم البيئة الاستثمارية، فقد تشرفت بحضور لقاء تشاوري في غرفة تجارة عمان جمعنا مع السادة أعضاء اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب ومعالي وزير الاستثمار، حيث تطرق الحضور إلى كافة فقرات القانون بالنقد والتحليل وكان الحوار على أعلى مستويات التفاهم والانفتاح.

بيد أنني أود هنا أن أتطرق إلى زاوية مختلفة في النظر إلى قضية الاستثمار تنطلق من الحديث عن مفهوم الاستثمار ومقصده الرئيسي.

الاستثمار.. غاية أم وسيلة

بدايةً أقول، أننا نعامل الاستثمار على أنه غاية نسعى لتحقيقها والوصول إليها وليس أداةً لتحقيق النهضة المستدامة. نحن نميز بين أصحاب الأموال القادمين وبين بناة البلد وصناع الحياة فيه إما من خلال حجم المال المستخدم في العمل وأحياناً من خلال تعريف الأشخاص المالكين للعمل أو طبيعة كأن يكون مصنعاً أو برجاً عالياً أو غير ذلك من الكيانات التي اعتبرناها استثمارا حصراً عن بقية الأعمال والمشاريع. وقد لاحظنا بأن بعض فقرات القانون المقترح تحدد سقفاً للحصول على الامتيازات يمنح "المستثمر" هذه الامتيازات فقط إذا تجاوز السقف المذكور (وهو بالملايين!!) ويمنع عنه هذه الامتيازات إذا انخفض استثماره عن هذا السقف. وأنا هنا لن أناقش هذه الامتيازات وطبيعتها لأنني لا أجد فيها أي حافز حقيقي يحث على الانتماء إلى هذا البلد لأنها مصممة بشكل مادي جاف، بينما نجد دولاً كبيرة وعظيمة في اقتصاداتها كبريطانيا مثلاً، تشجع أي إنسان يرغب في فتح مشروع مستدام بمبلغ لا يتعدى المائة ألف جنيه إسترليني وتدعمه مادياً ومعنوياً حاله كحال كل الأعمال والمشاريع الأخرى الموجودة سواء الأكبر حجما أو الأصغر حيث تتم متابعته من خلال أجهزة حكومية تقترح عليه وتشاركه الأفكار والحلول للمشاكل والتحديات، ناهيك عن منحه الإقامة الدائمة المنتهية بالتجنس خلال فترة قصيرة مما يزيده انتماءا وتشبثاً بمشروعه.

تصحيح البوصلة

باعتقادي أننا لو اتفقنا على أن غايتنا الأصلية هي ازدهار بلدنا الأردن وإعمارها وتطوير بناها التحتية وخلق فرص عمل مستدامة لأبنائنا نضمن من خلالها توفير الحياة الحرة الكريمة لكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة فإننا بذلك نضع الاستثمار في مكانه الصحيح باعتباره أداةً لتحقيق غايتنا المنشودة، وبالتالي فإننا لن نميز بين عمل وآخر وسنعتبر أن كل عمل مستدام يخدم الغاية الأصلية هو استثمار يستحق الاحترام والتقدير والدعم سواء كان رأس ماله عشرة آلاف دينار أو عشرة ملايين فالعبرة ليست بحجم رأس المال بل بديمومة العمل وقدرته على ملء الفراغ المناسب لحجمه على الخارطة التنموية للبلاد. هناك مشاريع إبداعية لا تتطلب رؤوس أموال كبيرة بل تحتاج إلى موارد بشرية خصوصاً في مجال تطوير الخدمات الرقمية والبحث والتطوير. مثل هذه المشاريع لا تعتبر استثمارا في تعريفاتنا ولا نلقي لها بالاً رغم أنها تفتح الطريق أمام فرص عمل ونشاطات مساندة كثيرة.

هذا الفهم ليس سفسطة كلام بل هو مفتاح مهم لإعادة تكوين الوعي الجمعي للمجتمع لكي يغير نظرته نحو كل من يبدأ عملاً أو يستثمر مالاً أو جهداً أو فكراً ضمن خارطة التنمية، لأننا ساعتها لن ننظر إلى هذا "المستثمر" على أنه مصدر للأموال أو صيد ثمين يجب أن نستفيد منه بشكل مباشر من خلال علاقة "هات وخذ" مصلحية بحتة، بل سنعتبره شريكا للمجتمع في تحقيق غايته المنشودة وستصبح العلاقة بين الطرفين شراكة متوازنة يعرف فيها كل طرف مسؤولياته وحقوقه. والأهم من ذلك أننا بهذا الفهم سننظر إلى الموضوع بعدالة وشمولية أكبر لتحسين وتطوير بيئة الأعمال ككل لتصبح هذه البيئة جاذبة لكل أشكال الاستثمارات في كل القطاعات والمستويات الاقتصادية التي تخدم غايتنا الأساس دون تمييز وهذا سيتطلب وضع خطة إعمار وتنمية شاملة وعادلة تساندها منظومة من القوانين والسياسات الإجرائية والأنظمة الرقمية والرقابية لدعم كافة مستويات العمل والاستثمار مما يخلق نفساً تشاركياً إيجابياً يمحو بالتدريج آثار الثقافة السلبية السائدة والمتجذرة لدى بعض مفاصل الدولة والتي تمثل عائقاً كبيراً في طريق ديمومة وازدهار الأعمال والمشاريع الاستثمارية القائمة والقادمة.

سن القوانين الناظمة للأعمال يمثل خطوة مهمة في الطريق نحو الهدف ولكنه لن يجدي نفعاً دون تطبيق ومتابعة وتقييم وتصحيح مستمر يتم على أيدي كفؤة مؤمنة بالهدف ومدركة لحجم التحديات وطبيعتها. كل ذلك يستدعي مراجعة مستمرة وفهماً ومصارحةً يجمعنا فيها حب الوطن والرغبة لبناء مستقبل آمن وزاهر يرفل فيه أحفادنا بالعدل والاستقرار.

مختص في البناء وإدارة المشاريع