خبير اقتصادي
الديماغوجية في عصر البيانات.. شائعات المستشفى الرقمي
شهد العصر الرقمي تطورا مذهلا في أدوات التأثير والتلاعب بالرأي العام، فقد أصبحت البيانات والمعلومات الرقمية قوة هائلة تشكل ساحة المعركة الجديدة في صراعات النفوذ والتأثير. ففي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد الاعتماد عليها كمصدر للأخبار والمعلومات، برزت أسئلة حول مدى استغلال هذه المنصات لأغراض سياسية وتجارية، وهل يمثل هذا الاستغلال تطورا حديثا للديماغوجية التقليدية؟
كيف خدمت لتكنولوجيا الديماغوجية؟
الديماغوجية التقليدية كانت تعتمد على الخطاب العاطفي والإغراءات الوهمية لإقناع الجماهير، وكانت تقتصر على نطاق جغرافي محدود. أما الديماغوجية الرقمية، فتعمل على مستوى أوسع بكثير، وتستغل قدرات التكنولوجيا الحديثة لتحليل سلوك المستخدمين وتقديم محتوى مخصص لهم بدقة متناهية.
فمنصات التواصل الاجتماعي تعتمد على خوارزميات معقدة لتحليل سلوك المستخدمين وتقديم المحتوى الذي يرجح أن يجذب انتباههم. هذه الخوارزميات تجمع بيانات هائلة حول تفضيلات المستخدمين، واهتماماتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، وسلوكهم عبر الإنترنت.
فتحليل الخوارزميات يساهم في تقديم تجربة أفضل للمستخدم من خلال عرض محتوى يتناسب مع اهتماماته. ويساعد في رصد التوجهات والآراء السائدة بين المستخدمين. ويمكن للمعلومات المستقاة من تحليل البيانات أن تساعد في تحسين خدمات المنصة وتطويرها.
تحليل الخوارزميات يسبب أضرارا لا يمكن حصرها
إلا أن لهذا التحليل أوجه استغلال تؤدي إلى أضرار لا يمكن حصرها والسيطرة عليها، ويمكن للخوارزميات أن تساهم في بناء فقاعات معلوماتية إذ يعرض للمستخدمين فقط المحتوى الذي يتفق مع آرائهم، مما يعزز الانقسامات الاجتماعية ويصعّب الحوار البناء.
كما يمكن استغلال هذه البيانات لتوجيه الرأي العام نحو مواقف معينة أو دعم أجندات سياسية معينة، أو لنشر الأخبار الكاذبة، فيمكن للخوارزميات أن تساعد في نشر الأخبار الكاذبة والشائعات بسرعة وفعالية أكبر.
وهناك مئات الأمثلة من الواقع العملي كالتسويق المستهدف؛ إذ تستخدم الشركات تحليل البيانات لتقديم إعلانات مخصصة لكل مستخدم، مما يزيد من فعالية الحملات التسويقية. كما تستخدم هذه التحليلات للتلاعب بالرأي العام، فهناك أدلة على أن بعض الجهات استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأخبار الكاذبة والتلاعب بالرأي العام في العديد من البلدان.
أمثلة على استغلال البيانات لتوجيه الرأي العام
وعلى المستوى المحلي هناك العديد من الأمثلة لمثل هذا الاستغلال كما حدث عندما وزعت وزارة التربية وجبات مدرسية على الطلبة تحتوي على حبوب فيتامينات، فقد ظهرت حينها العديد من التحليلات الاجتماعية التي تفترض أن هذه الفيتامينات هي لغايات تحديد النسل ولم يظهر أي دليل علمي على ذلك إلا أنها مجرد إشاعة ظهرت وتدحرجت لتكبر وتصبح ما يشبه الحقيقة على مستوى الوطن.
كما ظهرت إشاعة أخرى تتعلق بالمستشفى الرقمي الذي تعمل على إنشائه وزارة الصحة ووزارة الاقتصاد الرقمي من خلال تمويل إمارتي، حيث تم تجاهل الهدف والغاية من التحول الرقمي للخدمات الصحية وابتداع إشاعة جديدة تقوم على أن الشركة المنفذة تهدف إلى بيع بيانات الأردنيين إلى الاحتلال.
اقرأ المزيد.. مخاوف شعبية من اتفاقية التحول الرقمي مع بريسايت: هل تهدد بيانات الأردنيين؟
ولا بد هنا من النظر في تحليل ما تم تداوله؛ إذ إن الاتفاقيات التي يتم توقيعها لمثل هذه الأغراض تترافق مع التزامات بالحفاظ على سرية البيانات وكيفية التعامل معها وتحليلها وتشمل تعريفا بالأشخاص الذين يسمح لهم بالاطلاع عليها ومدة تخزينها؛ ولم يظهر أي دليل من قبل من روجوا لهذه الإشاعة على ما تم الترويج له إلا فقط استغلال للرأي العام والعاطفة والموقف من الكيان المحتل وأن هذه الشراكة والتمويل من الجانب الإماراتي هي فقط لتسريب بيانات الأردنيين.
وأما فيما يتعلق بالحصول على بيانات الأردنيين، فأود أن أشير هنا إلى أن أجهزة الهاتف الذكية التي نتعامل معها كل يوم ودقيقة هي أكبر جامع بيانات عن حامليها وبطريقة مجانية دون الحاجة إلى دفع ملايين الدولارات للحصول عليها وبموافقة وإرادة حرة من حامليها؛ فوسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات التي على هواتفنا على اختلاف أنواعها تجمع مختلف أنواع البيانات مجانا وبموافقة المستخدمين وتحللها وتبيعها للأطراف المهتمة.
الهواتف الذكية.. تحليل مجاني للبيانات
فمن خلال مواقع الشراء والأماكن التي يزورها الشخص وعدد نبضات القلب وحركة العين والمزاج اليومي بناء على الحالة النفسية من خلال تقاسيم الوجه للشخص، ومن خلال عادات الإنفاق وأماكن الإنفاق؛ يمكن تقديم تحليل شامل عن سلوك الفرد وأسلوب حياته اليومية والعامة دون الحاجة إلى إنفاق مئات الملايين في شراكات بين دول للحصول على هذه المعلومات وللتأكد من هذه البيانات التي يتم جمعها يستطيع أي مستخدم لهذه التطبيقات أو الأجهزة الذكية الرجوع إلى تاريخ المواقع التي زارها أو أنفق عليها أو تصفحها أو عدد نبضات القلب أو المسافة التي قطعها في يوم أو وقت معين من خلال هاتفه والذي ينقلها إلى مزود خدمات التطبيقات لتحليلها وبيعها.
وعليه يمكن القول إن تحليل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي يمثل تطورا نوعيا للديماغوجية التقليدية، إذ يوفر أدوات أكثر دقة وفعالية للتأثير على الرأي العام. فبدلا من الاعتماد على الخطاب العاطفي العام، يمكن للديماغوجية الرقمية استهداف الأفراد بشكل مباشر وتقديم رسائل مخصصة تلبي احتياجاتهم ورغباتهم.
إن تحليل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي يمثل تحديا كبيرا للمجتمعات الديمقراطية؛ فهو يهدد بتقويض الحوار البناء والتشكيك في مصداقية المعلومات، ويجب على الحكومات والشركات ومنصات التواصل الاجتماعي العمل معا لتطوير آليات تنظيمية تضمن استخدام البيانات بشكل مسؤول وتمنع استغلالها لأغراض سياسية أو تجارية ضارة. كما يجب على الأفراد أن يكونوا أكثر وعيا بأساليب التلاعب بالمعلومات وأن يتعلموا كيفية التحقق من صحة الأخبار قبل مشاركتها.
في النهاية، يجب علينا جميعا أن نكون حذرين من قوة البيانات والذكاء الاصطناعي، وأن نعمل على استخدامها بطريقة تعود بالنفع على المجتمع ككل.