قانوني، كاتب
الديمقراطية والتقاء الخصوم
بقلم: محمد العودات | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
نتحدث هنا عن القوى المؤثرة على الأرض العربية التي أصبحت سبخة مالحة وكأن البيئةَ العربية ثالولة نشاز في وجه الإنسانية، بيئة متصحرة لا تنبت زرع الحرية السياسية ولا يدر للديمقراطية بها ضرع، بيئة لا تنمو بها أشجار الديمقراطية وإنْ نبتت لا تعيش إلاّ لفترة قليلة ثم تهمد وتموت، هذه القوى التي تتدافع على الأرض العربية هي القوى اليسارية بكل أشكالها وأطيافها وتشكيلاتها، والقوى الإسلامية بكل تلاوينها وبعض الأنظمة الشمولية، إذ تجمع كل تلك القوى على رفض الديمقراطية ومعاداتها وعدم الإيمان بها وعدم التسليم لها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
من المعلوم بضرورات العمل السياسي أنه لا نهوض ولا استمرار لهذا النهوض إلا بالديمقراطية التي تمكن الشعوب من استخراج أفضل ما لديها لإدارة المال العام وإدارة الشأن العام لتحقيق الأمن والرفاه الاقتصادي الذي ينعكس على كل مجالات الحياة وحاجات الإنسان من البنية التحتية والصحة والتعليم والعمل، إذ أن كل الدول الناهضة هي دول ديمقراطية كاملة الحرية، وأما بعض الدول الشمولية الناهضة التاريخ يقول لنا أن النهوض بها حالة مؤقتة وستزول، فالديمقراطية شرط من شروط استمرار النهوض وعدم التعثر والتهاوي والنكوص.
هنا نتناول الموقف الفكري والأيدلوجي لتلك القوى الفاعلة على الأرض العربية من الديمقراطية وتعاملها معها، إذ أنّهم يقفون جميعا موقفا حقيقيا معاديا للديمقراطية وإن كانوا يتحدثون عن رغبتهم في تطبيقها والمناداة بها.
كيف تنظر القوى اليسارية الثورية إلى الديمقراطية
القوى اليسارية الثورية تنظر إلى الديمقراطية على اعتبار أنها من إنتاج القوى الغربية الإمبريالية المعادية للاشتراكية الاقتصادية وطبقة العمال، هذه القوى تعتبر الديمقراطية مظلة للطبقية وتخلط بين الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية، وأفرادها يتعاملون مع الديمقراطية كأداة استعمارية يريد الغرب من خلالها فرض ثقافته الفكرية ونظريته الاقتصادية "السوق الحر" وتمكين أنصاره واتباعه من حكم المنطقة وتمكين غزو الفكر الغربي وسيطرة الرأسمالية على الشعوب.
أثبتت القوى اليسارية العربية في المنعطفات التاريخية أنها تنحاز إلى الأنظمة الشمولية وحكم الفرد بمواجهة الديمقراطية متى ما أنتجت الديمقراطية خصومهم في الأيدولوجيا، حتى أنها خاصمت الثورات العربية على الأنظمة الشمولية ذات التوجه اليساري، فانحازوا للاستبداد الأيدولوجي على حساب الديمقراطية، كما أنهم وقفوا إلى جانب الاستبداد وحكم العسكر نكاية بالإسلام السياسي ويستثنى من ذلك التعميم ما قام به الرئيس التونسي المنصف المرزوقي العلماني اليساري الذي انحاز للديمقراطية في مواجهة حكم الفرد والشمولية في تونس.
التيارات الإسلامية
ذات الموقف تكرر مع التيارات الإسلامية (الإسلام السياسي الشيعي)، له تجربة بائسة في العراق ولبنان من الديمقراطية، إذ حول الديمقراطية من آلية لتداول السلطة إلى آلية لتقسيم المجتمعات طائفيا بشكل طولي فأصبحنا أمام دول هشة ضعيفة مقسمة حسب الهوية الطائفية لتقع تلك الدول في مستنقع الحروب الأهلية المدمرة.
ومارست ذات الموقف قوى الإسلام السياسي السني، فهذه القوى ترفض الديمقراطية كفكرة ولكن بدرجات مختلفة بعضها يعتبر الديمقراطية كفر لا يجوز التعامل بها ومنها التيارات السلفية الجهادية، وبعضها يعتبر الديمقراطية أسلوب حكم لا يناسب الدولة الإسلامية المنشودة وينظرون إلى الديمقراطية نظرة نقص واستعلاء، وأما من قبل منهم بالديمقراطية وتعامل معها كأمر واقع تعامل مع الديمقراطية كوسيلة مؤقتة للوصول للسلطة وإقامة الدولة الدينية التي يبشرون بها تحت مسمى الخلافة الإسلامية كما يتصورونها كدولة ثيوقراطية محكومة برجال وعلماء الدين.
القوى الإسلامية تتعامل مع الديمقراطية كمنتج غربي يتعارض مع الإسلام وفقا لتصوراتهم الفكرية، هذه القوى ترفض التأثر بما أنتجه الغرب من منتجات سياسية على اعتبار أنه نوع من الغزو الثقافي تحت حجة أن الدين كامل ولا نحتاج إلى الاستعانة بما أنتجه غير المسلمون ولسنا بحاجة إلى الاستقراض الحضاري كما يصفون.
التجارب على الأرض تثبت أن الديمقراطية لا يتم التعاطي معها داخل أروقة التنظيمات الإسلامية إلا على وجه الذم والانتقاص والاستعلاء والتشكيك، والجدل حولها محسوم لصالح الرواية الأيدولوجية اليمينية التي تريد أن تسترجع أساليب الحكم في الممالك الإسلامية القديمة ويستثنى من تلك المواقف بعض القوى الإسلامية في المغرب العربي "النهضة التونسية والعدالة المغربي" التي تعاملت مع الديمقراطية كخيار استراتيجي ووحيد في تداول السلطة والعمل السياسي، وكخيار يستحق النضال والعمل من أجله.
موقف الأنظمة الشمولية
قد يكون من غير المهم الحديث عن موقف الأنظمة الشمولية التي ترفض الديمقراطية لأن هذا الموقف من طبائع الأمور، كما أن حالة الحكم الشمولي إلى زوال وأن طالت سلامتها، التاريخ الأوروبي والذي قد يكون التطور الطبيعي لحركة الشعوب سياسيا يقول إن الحكم الشمولي حالة عارضة في حياة الأمم.
موقف الأنظمة الشمولية "ذات المرجعية العلمانية والإسلامية" المعادي للديمقراطية واضح لا يحتاج إلى المزيد من الحديث حوله، فكل هذا العداء للديمقراطية ولكل من ينادي بالديمقراطية ولكل من وصل إلى الحكم بالديمقراطية هو عداء من باب الوقاية وحماية النفس ومحاولة توسيع دوائر الشمولية البعيدة حتى لا يصل بلل الديمقراطية إليهم، هذه الحالة الشمولية التي تعادي الديمقراطية قامت بالعمل على تجريف أي حالة رغبة للشعوب في حكم نفسها ويمكن أن تشكل نموذجا ملهما للشعوب في بلدانهم فتنادوا من أجل وأد فكرة الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه.
الديمقراطية نبتة أنجبت غابات وارفة من الحرية في كل الدول التي أخذت بها، إلا أنها لا زالت النبتة التي يرفضها الجميع في البيئة العربية وبنفس الوقت ويتغنى بها الجميع، لكنهم يريدونها وسيلة مؤقتة للوصول للسلطة أو وسيلة لتلميع الشمولية أمام المجتمعات المتحضرة وكسب الشرعية.
لن تنبت الديمقراطية ولن تؤتي أكلها في بيئتنا العربية ولن تنهي حالة الشمولية القائمة في العالم العربي إلا إذا حولنا الديمقراطية إلى عقيدة سياسية صلبة في نفوس الساسة ونقلها من مربع الوسيلة مؤقتة إلى طريق الخلاص الوحيد في العمل العام من جميع فرقاء العمل السياسي على الأرض العربية.