العلم بين المعروض والمطلوب

الصورة
فتيات في طريقهن إلى المدرسة في عمان الأردن | المصدر: الجزيرة
فتيات في طريقهن إلى المدرسة في عمان الأردن | المصدر: الجزيرة
آخر تحديث

جميعنا يحفظ الشعارات المأثورة التي تمجد العلم وتحث على طلبه مثل: طلب العلم فريضة، اطلب العلم من المهد إلى اللحد، اطلب العلم ولو في الصين، وغيرها الكثير الكثير من الشعارات التي تزين جدران مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية التي يرتادها الآلاف، بل الملايين ممن يسمون أنفسهم "طلاب علم" يغدون ويروحون إلى تلك المؤسسات في نظام موروث ومعروف لكل إنسان من لحظة فطامه عن حليب أمه وحتى تخرجه وحصوله على "طلبه" وهي وثيقة التخرج العتيدة التي يؤطرها ويعلقها على الجدار، إن تسنى له ذلك. 

العلم في المدارس حاله كحال السوق

فها هي حفيدتي تدرك أنها "طالبة" وأن عليها الذهاب إلى المدرسة رغم أنها لم تكمل الخامسة من عمرها، المدرسة بالنسبة لها أمر محتوم بكل بروتوكولاته المعروفة إذ تلتقي فيها برفيقاتها وتمارس معهم طقوسا وفعاليات تفرضها المدرسة حسب صنفها وتوجهات إدارتها، إما فعاليات محافظة وملتزمة في بعض المدارس، وإما أعياد ميلاد وحفلات "بيجاما بارتي" في مدارس أخرى، ويتخلل ذلك مواد تعليمية يستفيد منها التلاميذ لأنها مفروضة عليهم فرضا كمتطلبات عبور للمرحلة المدرسية التالية. 

يستمر هذا المنهج في التحكم بالـ"طالب" حتى يكمل التوجيهي لتبدأ مرحلة الجامعة التي ينساق إليها "الطلاب" سوقا في محاولة للحصول على وثيقة مطبوعة ومختومة، يتأمل "الطالب" أنها مفتاح تأهيله للحصول على عمل أو قبول طلبه للزواج. 

في كل ما سبق نسمع كلمة "طالب" تتردد في الآفاق ولا نجد نهائيا أي حضور أو أثر لكلمة "طلب"، ففي كل مراحل الدراسة والتعليم لا نجد -إلا ما رحم ربي وفي حالات استثنائية- أي توجه بحثي عن العلم، ثم نأتي بعد ذلك ونتذمر ونتشكى بأننا لا نجد علما في مؤسساتنا التعليمية! 

دعونا نتخيل سوق لحوم يأتيه المتسوقون يوميا ليشتروا منه شتى أصناف اللحوم، فيُسأل صاحب السوق: لماذا لا يوجد لديكم لحم الضب؟ فيكون الجواب المنطقي له: لأنه نوع غير مطلوب في بلادنا، ولو أننا نضمن وجود من يطلب لحم الضب ويدفع ثمنه باستمرار، لقمنا بتأمينه وعرضه في السوق. 

وهذا هو بالضبط ما يحدث مع العلم والمعرفة، فنحن لا نطلبها في مدارسنا وجامعاتنا ولذلك هي شبه مفقودة إلا بالنزر اليسير الذي يلبي حاجة البعض من الاستثنائيين. من هنا كان الأجدر أن نطلق على من يرتاد مؤسساتنا التعليمية لقب "منتسب" لأنه أقرب إلى واقع وصفه من لقب "طالب علم". 

ولإيجاد حل لهذه المشكلة، علينا أن نعود إلى أصل الموضوع، الكلمة "طلب". فنحن إن أحسنّا تعريفها وإدراك معناها سنجد الطريق مفتوحا لزرعها في نفوسنا ونفوس الأجيال القادمة وعند ذاك سنجد "أسواقنا" التعليمية مزدانة بشتى أصناف العلم لكثرة "طالبيه". 

طلب الشيء يأتي من إدراك الحاجة إليه ومتزامنا مع الشعور بنقص وجود هذا الشيء لدينا. أنا أحتاج إلى العطر للزينة، فإن أدركت هذه الحاجة وأدركت نفاد العطر لدي، سأذهب إلى السوق مباشرة وأبحث عن العطر الذي أحب ولا أعود إلى المنزل إلا والعطر الجديد في يدي. الأمر نفسه يمكن تصويره لأي حاجة مادية كالطعام من الخبز والشراب، أو الملبس أو المركب أو غيرها مما ندرك حاجتنا إليه فإن أحسسنا بفقدانه اجتهدنا وسعينا في طلبه. 

ترويج العلم والمعرفة ناقص لأننا نتعامل معه بترف

نحن في المدارس وحتى الجامعات نحاول أن نروج لأهمية وقيمة العلم والمعرفة، ولكن ترويجنا ناقص لأننا نتعامل مع هذه القيمة على أنها ترف فلا نبذل جهدا في إفهام المتلقي أهمية العلم والمعرفة في تغيير وإصلاح واقع حياته على المدى القصير والبعيد. نحن نردد الشعارات الرنانة حول العلم وننسفها بتوجهاتنا التي تمجد المال والقوة حيث ترانا نخلط بشكل واضح ما بين الوسيلة والغاية، فتارة يكون العلم وسيلة وتارة غاية وكذلك هي الحال مع المال والقوة اللذين يتغلبان على العلم غالبا -مع الأسف- فيصبح العلم خادما مطيعا لهما ومطية تسخر لتحقيق مآربهما. 

الأمر الأهم من ذلك هو افتقار ثقافتنا المجتمعية ومناهجنا التعليمية وأسلوب تدريسنا إلى ما يعزز شعورنا بالتواضع العلمي والمعرفي وإدراكنا بأن معلوماتنا ومخزوننا المعرفي لا يكفي ولن يكفي للإجابة على ما يواجهنا في الحياة من تحديات وأسئلة ومواقف. هذا الشعور "بالنقص" سيدفعنا دوما إلى البحث والتطوير في كل مجالات الحياة. 

وهم التخمة بالعلم

نحن متخمون في خيالنا وفي وعينا الجمعي بالعلم والمعرفة فلا نشعر بالحاجة إلى الاستزادة في طلبهما. ذواتنا ونفوسنا تربت على عدم التصريح أو الاعتراف بوجود أي نقص لدينا في المعرفة. مصادرنا العلمية واستنتاجاتها لا تناقش، فالعلم ينتهي حيث تنتهي معلوماتنا. نحن دوما نعرف، فإذا قرأنا سطرين من كتاب أو منشور على "فيسبوك" في تأريخ الدولة الرومانية ظننا أننا خبراء في التأريخ الروماني ومدركون لما جرى خلاله من حوادث. وإذا تخرج أحدنا من كلية الزراعة وقد مرت عليه مقررات الجامعة التقليدية فإنه يظن نفسه عارفا بكل أسرار الزراعة، في حين تجد أن البروفيسور الذي ألف الكتب المعتمدة في هذا الاختصاص لا يزال يبحث ويبحث عن الحقيقة العلمية لأنه كلما زاد علما أدرك مدى جهله في اختصاصه. هم -في العوالم الأخرى- يطلبون العلم فيجدونه منتشرا في مكتباتهم، منتدياتهم، جامعاتهم وفي كل مكان. أما نحن، فمطلبنا الأساسي في رمضان هو "القطايف" لذلك نجدها بفضل الله في كل زقاق وكل زاوية من زوايا البلد. تلك هي المعادلة وتلك هي نتائجها العادلة. 

وعليه فإننا بحاجة أولا إلى تدريب وتطوير قدرات المعلمين والمربين في كل القطاعات والمستويات وإعادة تشكيل الثقافة المعرفية لديهم لتفريغ حالة التخمة والنفخة العلمية التي يعاني الكثير منها لكي يدركوا الشعور بالحاجة للتعلم والتفكير النقدي، عسى أن تنتقل عدوى هذا الشعور إلى نفوس "طلابهم" أملا في أن يأتي يوم قريب إن شاء الله، نجد فيه الطلاب "طلابا" حقيقيين يجوبون الأسواق والمدارس والجامعات، باحثين عن الحقائق العلمية بعقليات نقدية منفتحة على كل الأفكار فتزدهر المرابع وتنمو الإمكانات ويلوح في الأفق أمل التمكين لهذه الأمة. فدون العلم والمعرفة لن تكون هناك نهضة ودون النهضة لن تتمكن الأمة من اعتلاء الموقع الذي يتناسب وتأريخها وإرثها الحضاري. أمر صعب المنال، ولكنه قابل للتحقيق بعون الله إذا ما تكاتفت السواعد وتواضعت العقول ولانت النفوس وشحذت الهمم.

اقرأ المزيد.. نحن والمعاني.. مقال الدكتور ليث أزهر

دلالات
الأكثر قراءة
00:00:00