مختص في البناء وإدارة المشاريع
نحن والمعاني.. مقال الدكتور ليث أزهر
بقلم ليث أزهر | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
لعلنا لا نبالغ إن قلنا بأن اللغة العربية تعتبر من أثرى لغات العالم (إن لم تكن أثراها) في المفردات والمعاني والقواعد الضابطة لنظم الجمل والتعابير، ويبقى التشريف الأكبر لهذه اللغة هو كونها لغة القرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على سيدنا محمد (ﷺ) ليكون النور المبين والوصف اللامتناهي لأسرار الكون؛ هذا التشريف لم يأتِ مصادفة أو محاباة لقوم أو ثقافة بل (باعتقادي) لأن هذه اللغة بلغت من العمق والاتساع في بحور النظم وإظهار المعاني والبيان ما يؤهلها لهذا الموقع الفريد لتكون لغة التبليغ الإلهي لعموم البشرية.
بيد أن هذه المكانة والميزات التي أدت إليها تعطينا مؤشرا آخر عن تطور الإدراك البشري للجماعات الناطقة بهذه اللغة واتساع أفق تفكيرهم لاحتواء الكم الهائل من المعاني التي اشتملت عليها مفردات اللغة العربية، فالأصل للناطق بالعربية أنه يميز بين أسد وليث وضرغام وسبع وغضنفر بأن لكل منها معنى للأسد بمواصفات مختلفة، بينما لا يوجد في الإنجليزية إلا كلمة واحدة للأسد وهي Lion. وهذا إنما يدل على سعة أفق العربي "الأصيل" وتفكيره وإلمامه بتفاصيل وصفات الأسد الدقيقة وتسمية كل تشكيلة منها باسم مختلف.
نفس الشيء ينطبق مع لفظ "القوة" الذي يرادفه سيل من الكلمات العربية التي تحوم حول معنى القوة ولكن من زوايا نظر مختلفة فهناك الصلابة والصلادة والعزة والقسوة والشدة والمنعة وغيرها كثير، بينما في الإنجليزية لا تجد أكثر من خمس مفردات (strength, stiffness…).
كذلك لو مررنا بكلمة صديق وقريباتها (صاحب، رفيق، قرين، عزيز.. إلخ) والأمثلة حول ذلك لا تعد ولا تحصى لآلاف الأسماء والأفعال والمصطلحات.
والملاحظ أن كثير من العرب يتغنون ويتفاخرون بعظمة اللغة العربية وإمكانياتها التعبيرية في وقت نجدهم بعيدون جدا عن إدراك هذه الإمكانيات، ناهيك عن مدى الاستفادة منها أو تسخيرها في حياتهم اليومية.
كيف لنا أن نكون أعزاء ونحن لا نعرف المعنى الصحيح للعزة؟! وكيف لي أن أحسن صحبتك أو رفقتك أو صداقتك وأنا لا أميز بين هذه الكلمات ولا أدرك مقتضى تحقيق أو توصيف كل واحدة منها؟
كيف لي أن أصبر وأتمتع بثمار الصبر وأنا لا أفهم المعاني التي تنطوي عليها كلمة "صبر"؟!
يزداد الأمر إيلاما عند الحديث عن القرآن وعلومه وتدبره، إذ نجد قصورا كبيرا في استيعاب المعاني وفهم الآيات والسور والصور القرآنية نتيجة الضعف الواضح والفاضح في معرفة وفهم معاني الكلمات، هذا القصور يضعف قدرتنا على تدبر الآيات ويحجم مدى استفادتنا من وجود هذا الكتاب العظيم بين أيدينا وبلغتنا المقروءة والمكتوبة، بل وقد يدفعنا نحو أفهام خاطئة ومخالفة لمراد الله في محكم التنزيل ومتشابهه على حد سواء.
راجيا أن يكون هذا المقال دعوة لطيفة لمراجعة مناهجنا التربوية ومنتدياتنا الثقافية لتوجه جهدها نحو البحث الجاد والعميق في المناقشة والتعريف بالمعاني التي تنطوي عليها مفرداتنا العربية لكي نوسع دائرة الفهم والوعي ونساهم في خلق قاعدة رصينة لأجيال تدرك وتفهم ما تنطقه ألسنتها وما يحتويه تراثها وإرثها لتكون أكثر قدرة على قراءة الواقع وتحديد مسارات إصلاحه وتحسينه.