محرر ومذيع أخبار
اللغة العربية جمال الهوية.. وتحديات الحفاظ عليها
في ركن هادئ داخل أحد متاجر الألبسة، جرى حوار ماتع ومثرٍ حول أهمية اللغة العربية واستخدامها في حياتنا اليومية. بدأ الحوار بصورة عفوية مع موظف المبيعات حسين، وهو الملهم وراء هذا الحوار الذي أجمعنا فيه على جماليات لغتنا العربية الفريدة وقيمتها.
لقاء الألبسة والكلمات
وأنا أتجول في ركن الألبسة المخصصة للرجال داخل المتجر، وبصحبة أحد الأصدقاء، وإذا بموظفة خدمة الزبائن تطلق نداء عبر مكبر الصوت تستدعي فيه أحد موظفي قسم الأطفال.
استوقفني ذلك النداء، دهشت لبرهة ثم تهلل وجهي ضاحكا، بدا صديقي مستغربا، قلت له لا عجب، فسردت عليه ما حدث معي وأخبرته أنني قبل أشهر معدودة كنت في هذا المتجر، وكانت موظفة خدمة الزبائن تطلق النداء تلو الآخر بلغة إنجليزية غير متقنة. حينها امتقع وجهي غضبا، وتوجهت مباشرة إلى تلك الموظفة، وبادرتها بسؤال: هل من مبرر لاستخدامك اللغة الإنجليزية؟
فأجابت تلك الموظفة "لا" لكنه عرف لدى المتجر .
فطلبت منها أن تستدعي لي المسؤول عن هذا المتجر، ولم تتوانَ في تلبية طلبي. وإذا بشاب يرتدي هندامنا رسميا، يقبل من بعيد مسرعا، فقال: "تفضل أستاذ كيف بقدر أساعدك؟"
قلت له وبطريقة مباشرة وجادة: هل لك أن توضح لي حاجتكم إلى استخدام اللغة الإنجليزية، ومتجركم في دولة عربية، العاملون لديكم عرب، زبائنكم عرب أيضا، كل هذه أسباب لا تبرر لكم استخدام اللغة الإنجليزية، أم أن العربية لا تليق بمتجركم يا سيد؟
صمت الرجل برهة، بدا وكأنه يبحث عن مبرر ما، ينظر إلي وأنظر إليه، وعيون بعض الموظفين تراقب عن بعد.
ابتسم وقال: "أول مرة بحس إني مش قادر أبرر موقف لزبون، والله أحرجتني، ما في سبب بس هيك".
قلت له: قد أتفهم استخدام اللغة الإنجليزية في بيئات العمل في سياق الحاجة لها، لكنني لا أرى أنكم بحاجة لاستخدامها في النداء على الموظفين عبر مكبر الصوت، هذا من وجهة نظري، صدقوني الحديث باللغة العربية لن ينقص من احترامكم شيئا، والحديث باللغة الإنجليزية لن يزيد منه أبدا بل على العكس، أتمنى أن أستمع لنداءاتكم في زيارتي المقبلة باللغة العربية.
لم أكن أعلم أن حسين، كان يستمع إلى قصتي تلك، فكانت بداية الحوار بيني وبينه، حسين الذي يعمل موظف مبيعات في ذلك المتجر هو طالب في السنة الجامعية الثالثة، ويدرس تخصص اللغة العربية -لكنه لا يتحدثها أبدا- اللهجة العامية هي التي تدرج على لسانه، سألته عن تجنبه الحديث باللغة العربية وهو يدرسها، قال لي: في بداية عملي بهذا المتجر كنت أتحدث اللغة العربية مع زملائي والزبائن، لكنني كنت أواجه بالاستهزاء وأحيانا بالتقريع لأنهم يعتقدون أنني أستخف بهم. ووالله ما كنت أقصد شيئا سوى أنني أحب اللغة العربية.
فما كان من حسين سوى التماهي مع من حوله واستخدام اللهجة العامية إلى أن تقزمت اللغة العربية على لسانه تماما. طبعا لمته على ما فعل، وعلى إذعانه لهم رغم أنهم لا يملكون الحق فيما فعلوه وهو على صواب، فكان من الأجدر أن يدافع عن لغته وأن يطلق لسانه بها.
الحديث مع حسين تجاوز حدود الملابس الضيقة إلى سعة اللغة العربية وعمقها، بدا حسين يتحدث بعربية طلقة، وأخذ بحماسة يتبادل معي وجهات النظر حول قوة اللغة في نقل المعاني والتواصل. زملاؤه تحلقوا من حولنا، وهم يعتقدون أنني من إحدى دول المغرب العربي، لا لشيء، سوى أنني أتبادل الحديث مع زميلهم باللغة العربية، لكنهم تفاجؤوا أنني كحالهم أردني، وعلى قدر دهشتهم كان الاحترام والتقدير واضحا لإصراري على الحديث باللغة العربية.
رسالة التفاهم والهوية
أشار حسين إلى أن اللغة العربية ليست مجرد سلسلة من الحروف والكلمات، بل هي رمز للتواصل الحقيقي بين البشر. ومن خلالها يمكننا التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بدقة وتعبير عميق. ولا يتوقف دورها على ذلك فحسب، بل تمتد إلى تعزيز هويتنا الثقافية واللغوية.
معضلة الابتعاد وتحديات الحفاظ
لماذا ينخرط من حولنا من أبناء هذه اللغة باستخدام لغات أخرى على حساب اللغة العربية؟ يبدو أننا أمام تحدي الحفاظ على هذا الكنز الثقافي.
قدر حسين الحديث الذي أجريناه، حتى أنه أصر على دعوتي لزيارة منزله، وأعرب عن أمله في توجيه الأضواء نحو قوة اللغة العربية وجمالها واستخدامها بفخر. يا سبحان الله.. كيف انتقلنا من بين الملابس إلى عمق الحوار عن اللغة العربية، حيث تأكد لنا أن اللغة العربية تحمل في جوانبها الكثير من الجمال والقيم، وهي أوسع من أن يحتويها حديث في ركن داخل أحد المتاجر. قصة الحوار بيني وبين حسين في متجر الألبسة تذكرنا بقوة الكلمات وقدرتها على تشكيل تفاصيل حياتنا ومستقبل ثقافتنا.
تعد اللغة العربية من أعظم الثروات التي تمتلكها البشرية، فهي لغة القرآن الكريم ولغة الأدباء والفلاسفة العرب الذين أثروا التاريخ بأعمالهم الرائعة. تتجسد أهمية اللغة العربية بقدرتها على نقل الأفكار والمشاعر بدقة وجمال، وفي دورها الحيوي كوسيلة للتواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة.
اللغة العربية والهوية
اللغة العربية ليست كلمات وحروفا فقط، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية العربية. وهي عنصر مميز يجمع الناس ويعبر عن تاريخهم وثقافتهم. وتسهم في الحفاظ على التراث الثقافي والأدبي للأمم العربية. من خلالها تُحكى القصص وتُنقل المعرفة من جيل إلى جيل. إن الأعمال الأدبية والشعرية التي كتبت بالعربية تشكل مخزونا ثمينا من التاريخ والفلسفة والفن وتمكين التفاهم العابر للحدود.
إن المحافظة على هذا الكنز اللغوي يعني الاحتفاظ بجزء من هويتنا وتراثنا. لنكن فخورين بلغتنا ولنعمل جميعا على نشرها وتعزيز فهمها حتى تستمر كجسر من التواصل الثقافي والتلاقي.
أثر الابتعاد عن اللغة العربية
ابتعاد الأفراد عن استخدام اللغة العربية قد يؤدي إلى فقدان التواصل مع تراثنا وثقافتنا. وتراجع الإبداع اللغوي وانحسار العمق في التفكير والتعبير. عندما يبتعد الأفراد عن استخدام اللغة العربية، قد يتلاشى بمرور الوقت جزء من هويتهم الثقافية واللغوية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان اتصالهم بجذورهم وتراثهم.
وقد يؤدي ابتعاد الأجيال الشابة عن استخدام اللغة العربية إلى تفاقم الفجوة بين الأجيال المختلفة، حيث يمكن أن يكون هناك صعوبة في التواصل ونقل القيم والتراث من جيل إلى جيل.
قد ينجم عن ابتعاد الأفراد عن اللغة العربية ضعف في قدرتهم على التعبير بشكل دقيق عن أفكارهم ومشاعرهم، وهذا يمكن أن يؤدي إلى سوء التفاهم وصعوبة في التواصل.
المسؤولية المشتركة في الحفاظ على اللغة العربية
للحفاظ على اللغة العربية وتعزيز استخدامها، يجب أن نتحمل مسؤولية مشتركة، يجب على كل فرد الشعور بالفخر والاعتزاز بلغته العربية واستخدامها بنشاط في حياته اليومية. يمكن أن يسهم كل فرد في الحفاظ على اللغة من خلال استخدامها في التفاعلات اليومية، وقراءة الأدب والثقافة العربية، والمشاركة في مناقشات وندوات لتعزيز الاستخدام الصحيح للغة.
وللأسرة دور كبير في نقل اللغة والثقافة من جيل إلى جيل. ويمكن للأهل تشجيع الأطفال على استخدام اللغة العربية في المنزل وتقديمها كوسيلة للتواصل والتفاعل.
كما أن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات التعليمية؛ إذ يجب أن تلعب المدارس والجامعات دورا هاما في تعزيز الاستخدام الصحيح للغة العربية وتعليمها بشكل فعال. يجب تكريس الجهود لتعزيز تعلم اللغة العربية كلغة رئيسية وتوفير موارد تعليمية جيدة.
ولوسائل الإعلام تأثير كبير في تشكيل الثقافة واللغة أيضا؛ إذ يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دورا إيجابيا في تعزيز استخدام اللغة العربية من خلال عرض محتوى ثقافي وتعليمي باللغة العربية.
ويجب أن يكون للمؤسسات الثقافية دور في تعزيز اللغة والثقافة من خلال تنظيم فعاليات تعليمية، وورش عمل.
ويمكن للحكومات تعزيز الاستخدام الصحيح للغة العربية من خلال دعم برامج التعليم والتثقيف باللغة، وتشجيع القطاعات الحكومية على استخدامها بشكل رسمي.
يجب تعزيز تعليم اللغة والتربية على حبها منذ الصغر، ويقع على المجتمع ووسائل الإعلام دور كبير في تشجيع استخدام اللغة وتسليط الضوء على جمالياتها وقيمتها الثقافية.
اللغة العربية تشكل تراثا ثقافيا عظيما ورمزا للهوية والانتماء. يتوجب علينا العمل جميعا على تعزيز واستخدام هذه اللغة الجميلة والقيمة، لنبني جسورا بين الأجيال ونحافظ على تراثنا اللغوي والثقافي.
اقرأ المزيد: يوم اللغة العربية.. نداء عالمي لتأكيد دورها الحضاري