الفرح كدلالة ثقافية: قراءة في المشهد الأردني بعد فوز المنتخب

الصورة
لاعبو المنتخب الوطني لكرة القدم قبل مباراة نصف النهائي من كأس العرب 2025 مع المنتخب السعودي 15/12/2025 | رويترز
لاعبو المنتخب الوطني لكرة القدم قبل مباراة نصف النهائي من كأس العرب 2025 مع المنتخب السعودي 15/12/2025 | رويترز
آخر تحديث

قد يبدو فوز المنتخب الأردني على شقيقه السعودي في نصف نهائي كأس العرب 2025 حدثا رياضيا في ظاهره، لكنه في عمقه لحظة كاشفة، لا عن مستوى كرة القدم فقط، بل عن بنية اجتماعية وثقافية متراكمة، وعن طريقة مجتمع كامل في التعبير عن ذاته حين ينجح بعد انتظار طويل. 

الفرح الأردني بفوز المنتخب: بنية متراكمة من الصبر والانتظار

الفرح، في السياق الأردني، ليس حالة عابرة ولا رد فعل تلقائيا على نتيجة مباراة. إنه تعبير مركب، يتكون عبر طبقات من الصبر، والتجربة، والخذلان أحيانا، ثم الأمل الذي لا ينقطع. ولذلك فإن فرحة الفوز هنا تشبه فرحة نجاح الأبناء في التوجيهي، أو لحظة نزول المطر على أرض أنهكها الجفاف، أو عودة غائب طال انتظاره. هذه التشبيهات ليست عاطفية بقدر ما هي توصيفات دقيقة لطبيعة العلاقة بين الأردني والإنجاز: علاقة مشروطة بطول النفس، وبالقدرة على الانتظار دون فقدان المعنى. 

لا يمكن فهم هذا الفرح بمعزل عن قسوة الواقع. فالحياة في الأردن، ماديا واجتماعيا وسياسيا، لا تمنح إنجازاتها بسهولة. النجاح غالبا ما يأتي متأخرا، وأحيانا مفاجئا، رغم أن الطريق إليه كان واضح ومشحون بالعمل اليومي الصامت. 

في هذا السياق، يصبح الفرح نفسه فعلا مقاوما، لا للاكتئاب فقط، بل لفكرة الاستسلام. وأحيانا، لا يكون الهدف هو "النجاح" بمفهومه الواسع، بل القدرة على الاستمرار يوما إضافيا بكرامة. 

من هنا، فإن مشهد المنتخب، وهو محاط بجمهوره، وبوجود الأمير الحسين والأمير هاشم إلى جانبه، قدم نموذجا مكثفا لما يمكن تسميته بـ"السردية الأردنية". فالأردن لا يعرف ذاته عبر الرياضة، لكنه يكشف عن جوهر هويته من خلال طريقة الفرح، ومن خلال الانضباط الذي يرافقه. الهوية هنا لا تختزل في النتيجة، بل في السلوك الذي يليها. 

هذا المجتمع لا يملك أدوات القوة الخشنة، ولا ميزانيات ضخمة، لكنه يملك الكلمة. الكلمة بوصفها تحفيزا، وثقة، وموقفا أخلاقيا. بالكلمة تبنى الثقة بين الجمهور واللاعب، وبين الفرد والجماعة، وبالكلمة أيضا ترسم الحدود: كيف نفرح، وكيف نختلف، وكيف نعذر الخاسر دون أن نمجد الهزيمة. 

الصورة التي خرجت من الملعب -الشماغ الأحمر، زيّ المنتخب، الشعار، النشيد، العلم– ليست عناصر جمالية فحسب، بل رموز ثقافية أعادت ترتيب العلاقة بين الفرد والفضاء العام. كرة القدم، في هذا المشهد، ليست هوية بحد ذاتها، لكنها مرآة تعكس الهوية القائمة: خفة دم لا تنزلق إلى الإسفاف، وحماسة لا تتحول إلى عداء، واحتفال لا يفقد السيطرة.

من عين غزال إلى الكرامة: تاريخ يميل إلى الجمع لا التفريق

غير أن هذه الصورة، بطبيعتها الجامعة، تصطدم أحيانا بمحاولات اختزالها. فالمناكفات الرياضية، حين تبقى في إطارها الطبيعي، جزء من الثقافة الشعبية. لكن الإشكال يبدأ حين يسعى بعض الإعلام إلى تضخيم تصرفات فردية معزولة، وتحويلها إلى مادة تأجيج، وكأن المجتمعات تختزل في أكثر لحظاتها تطرفا لا في سلوكها العام. هنا يصبح من الضروري التذكير بأن الأردن ليس مجتمعا طارئا ولا وليد لحظة، بل كيان تشكل عبر قرون، ولم تكن الفُرقة يوما من أدوات بقائه. 

فهذا المكان يحمل في طبقاته العميقة تاريخا ممتدا من عين غزال، حيث أول تمثال وأقدم فتات خبز عرفه الإنسان، مرورا بالكنعانيين وممالك مؤاب وعمون وأدوم، إلى الأنباط في البتراء، وفيلادلفيا الرومانية، وفسيفساء البيزنطيين، ثم العصور الإسلامية المتعاقبة، وصولا إلى الثورة العربية الكبرى والمملكة الأردنية الهاشمية، صاحبة معركة الكرامة. هذا التراكم التاريخي لم ينتج هوية منغلقة، بل شخصية وطنية تميل إلى الجمع لا التفريق، وإلى البحث عن المشترك دون إنكار الاختلاف.

الأردن، في مسيرته الحديثة، لم يبنِ حضوره الإقليمي على الإقصاء، بل على الاستضافة، وتقاسم الرغيف، والوقوف الأخلاقي في وجه الظلم. وهذه ليست شعارات، بل ممارسات تراكمت حتى أصبحت جزءا من الوعي الجمعي.

من هنا، يصبح الاحتفال نفسه مسؤولية. فالوطنية لا تعلق على شماعة الفرح، والإيمان لا يتوقف عند لحظة الانتصار. والاحتفال المنضبط ليس قيدا على الفرح، بل دليل على نضج الحضارات وقدرتها على إدارة مشاعرها دون أن تفقد إنسانيتها.

نحن لا نحتفل لأننا فزنا فحسب، بل لأننا ما زلنا نعرف كيف نفرح دون أن ننسى من نكون.

ومن يعرف كيف يفرح على هذا النحو، يعرف –بالضرورة– كيف يكون وطنا. 

00:00:00