حوار مع قائد متقاعد

الصورة
دبابة
دبابة
آخر تحديث

قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر كنت في المدينة الطبية لإجراء بعض الفحوصات الطبية، دخلت غرفة الانتظار فوجدت رجلا تجاوز عمره السبعين يجلس منتظرا حاله كحالي.. طبعا أنا مدرك أنه ضابط متقاعد "عقيد أو أعلى" رجل ما زالت تعلوه هيئة الضابط والقائد؛ فسمات الجندية تبقى عاملة لا تعرف التقاعد. 

بادرته بالسلام فرد بأحسن من تحيتي، ثم بادرني بالسؤال كأني شايفك! فقلت له ممكن وأنا متوقع أنه يقصد ظهوري الإعلامي. 

فلان الفلاني عميد متقاعد

قدمت نفسي له وسألته عن شخصه فعرفني على نفسه بقوله: "أنا فلان الفلاني عميد متقاعد". وكان من عشيرة أردنية أصيلة من عشائر الوطن المسيحية. تخرج ضابط برتبة ملازم في نهاية 1967 وتقاعد في تسعينيات القرن الماضي، فكان أول ما تبادر في ذهني أن أسأله: "إذن شاركت سيدي في حرب الكرامة 68؟" فرد باستهجان واستنكار على سؤالي: "طبعا شاركت.. وكنت حينها قائد فصيل 106 وكان موقع عملي في منطقة ناعور..." فقاطعته متسرعا؛ فأنا في شوق دائم لسماع أحداث تلك الفترة بالذات: "فما هي أهم الأحداث التي مررت بها خلال مشاركتك كقائد فصيل؟". أجابني وهو يضحك بابتسامة يعلوها التسبيح الخفي الجلي، قائلا: 

  • "هسع بنادوا علي وخليني أختصر لك السالفة..." 

  • أكيد أكيد تفضل سيدي.

طبعا أنا نسيت ألمي ولم أشعر بشعور الانتظار الذي أمقته ويزيد من ألمي في كل زيارة لذلك المكان، والتي أقوم بها مكرها لا راغبا. 

أوامر التحرك إلى الكرامة

بدأ حديثه الشيق بلهجة كركية أطرب لها وعليها، وأحن دائما لسماعها؛ ففيها أجد كل معاني السمو والعلو لهذا الوطن، وأعيش معها ذكريات عمري التي شابت وشاخت إلا ذكريات جامعة مؤتة. فما زالت صورة جامعة مؤتة فيها نقية بهية صبية لم يجر عليها ما جرى على جسدي من قساوة الزمن.. فقال: 

أبلغوني يومها أن أتحرك مع فصيلي إلى منطقة الكرامة فورا، وحقيقة دون إنذار مسبق لي بالتحضير. وأبلغوني أن أذهب إلى المنطقة الفلانية والتي لا أعرف أين هي بالضبط. ولم أرغب أن أقول كلمة "ما بعرفها" فالوقت وقت حرب وأنا كنت ملازما جديدا لا أحب كلمة "ما بعرف".. 

وتابع:

كان معي ثلاثة مدافع 106، وبتعرف المدفع 106 يحتاج إلى إجراءات وتحضيرات المواقع، وإصابته مش دقيقة 100% ويعني الأمور "حويسة" بالنسبة لي. وفعلا نزلنا على الغور، وقبل وصول الفصيل والسيارات والمدافع إلى منطقة الكرامة بشوي، وخلال مرورنا على مرتفع من الطريق جاءني رقيب يركض جهتي وينادي: سيدي سيدي وقف وقف... الرقيب بذكر إنه مومني وبعدني والله جديد ما أنا حافظ أسماءهم... شو في يا رقيب... قال لي الرقيب: تعال شوف والله إنه هناك دبابات إسرائيلية... والله إذا شافونا وإحنا متحركين ليقضوا علينا بالرماية... لازم نوقف ونوخذ مواقع..." 

يتابع: 

والله يا رجل إني طليت جهتهن، والا ثلاث دبابات إسرائيلية، وكل دبابة رافعة عليها علم غريب وعليها علم "إسرائيل".. وبدك الصحيح أنا مرتبك.. لكن رأي الرقيب سديد وصحيح.. قلت ليه طيب المدافع 106 بدها وقت حتى تجهز للرماية، ومعقول نصيب الدبابات...؟ قال لي الرقيب المومني يا سيدي توكل على الله.. والله ما ظل فيها... فقلت ليه توكل على الله قام الرقيب المومني نادى على الفصيل: افتحوا المدافع وانصبوها هون جنبي بسرعة بسرعة يا خوان... وفعلا بلشوا يحركوا المدافع ويذخروا. لكن أنا في داخل نفسي قلت: والله غير الدبابات الإسرائيلية من أول رميه تكتشف موقعنا وتبيدرنا بيدرة قاعد بفكر شو العمل التالي...

سر التوفيق.. بسم الله.. الله أكبر.. يا رب

كان أول رامي برمي على مدفع الـ106 الرقيب المومني، وخلال دقايق قليلة يا رجل وأنا كنت عنده.. بدا الرقيب المومني بده يرمي معتمدا على التوجيه السريع للمدفع دون ضبط دقيق.. لكن أنا في قرارة نفسي بقول: خليني أطلب من العسكر يرموا الرماية الأولى ويتفرقوا.. وهيك بتكون الخسائر بالآليات مش بالأفراد.. يعني فاقد الأمل تماما بإصابة أي دبابة. لكن وقعت الأمور... 

في تلك اللحظة، شعرت بشعور أن المنطقة ليس فيها صوت وكأنني في فراغ لا أسمع ضجيج العسكر وصوت المحركات.. شعور ما زلت حتى الآن لا أعرف تفسيره والله. سكون تام يا رجل... فجأة كسر ذلك السكون وذلك الصمت صوت الرقيب المومني العالي وهو يصرخ: يا رب.. بسم الله والله أكبر.. لم أسمع إلا هذا الصوت حتى صوت المدفع لما رمى ما بذكر إني سمعته.... 

ويتابع حديثه مقتربا مني بيده وأنا كنت حقيقة في حالة أيضا من السكوت والصمت التام، فكسر تلك الحالة بتلك الحركة التي دفع بها ركبتي (التي أصلا تؤلمني) بقوة وهو يقول: 

بتعرف يا رجل والله والله أنا أنظر تجاه دبابة العدو ووالله وكأنها الآن قدامي... وفجأة وإلا أنا بشوفها تولع وتقلب على جنب.. والله ما أنسى ذلك المنظر ما حييت... 

ثم يتابع: 

وفجأة أسمع صوت الرامي الثاني وهو يقول (بسم الله.. الله أكبر.. يا رب) وأسمع الثالث يقول: (بسم الله، الله أكبر.. يا رب).

وهنا وفي تلك اللحظات يأخذ ذلك القائد المتقاعد نفسا عميقا وكأنه والله الآن خرج من تلك المعركة التي حدثت قبل 58 عاما ليأخذ أنفاس النجاة.

وفي لحظة الأنفاس تلك بادرته باستغراب قائلا: دمرتوا الثلاث دبابات...؟ 

نظر إلي قائلا: إي والله... وخليني أزيدك من الشعر بيت..

تفضل سيدي...

يا خي ومن هذاك الوقت وقد أصبحت قائد سرية وقائد كتيبة وقائد لواء، وفي كل مناورة ورماية -وبتعرف كان يحضر الرماية النهائية رحمة سيدنا أبو عبدالله والقيادة العامة- لازم أمر على المدافع والدبابات قبل الرماية بشوي وأقول لكل رامي: اسمع علي قبل لا ترمي قول (بسم الله، الله أكبر.. يا رب) ماشي يا عسكري....؟

ووالله كلهم يصيبوا أهدافهم دون خطأ.. وحينها أشعر بالفخر والعزة، وأتذكر تلك الحادثة في معركة الكرامة... ويوم من الأيام وأنا قائد كتيبة.. وعلى وجبة الغداء في الصحراء، جاءني قائد اللواء وشكرني على حسن الرماية والإصابة، وقال لي ممازحا: يا خي قالوا لي إنك تنبه على العسكر قبل كل رماية أن يقولوا (بسم الله، الله أكبر.. يا رب)... فقلت له نعم سيدي صحيح... فقال ممازحا لي: طيب هاي لينا المسلمين... فقلت له ضاحكا: (هو الله ليكم لحالكم..؟) وذكرت له تلك الحادثة في معركة الكرامة... 

في تلك اللحظة نادى منادي على ذلك الضابط القائد الأردني المسيحي صاحب الإيمان والتصديق بمفهوم وفاعلية (بسم الله، الله أكبر.. يا رب) فسلم علي مودعا، وذهب إلى شأنه... وبقيت أنا في الغرفة أنتظر دوري في إجراء الفحوصات التي طلبها الطبيب.

ولما جاء دوري، وقبل أن يبدأ الممرض بغرس إبرته في ذراعي تداركت نفسي وقلت: (يا رب.. بسم الله، الله أكبر) وكانت النتائج بعد ساعات بانني بألف خير ولا حاجة للقلق كما توقع الأطباء! 

رسالتي لمن يهمه الأمر

الكيان الصهيوني يعتمد في سياسته وفي حروبه وفي وجوده على عقيدة واستراتيجية دينية مرتبطة بعقيدتهم وتوراتهم وتلمودهم؛ فالتلمود والتوراة حاضران في كل سياساته ومخططاته وتطلعاته وطموحاته التوسعية، متزامنا ذلك مع استحقار واستبعاد لعقيدتنا وتحت عناوين ضالة ومضلة مثل: (الإسلام السياسي وتطوير المناهج وحقوق المرأة وتحسين الاقتصاد). 

فنحن الآن نحارب علنا عقيدتنا في معظم سياساتنا وخططنا.. بل نخطط كيف نبتعد عن الله ظانين أن الأمان والسلامة في البيت الأبيض، وأن النجاة في معاهدات سلام قائمة على نصوص توراتهم ومجازر تلمودهم.. 

كيف هذا وذاك وعندنا كتاب الله عز وجل، ومن ثم رجال حول الأردن رفعوا ووضعوا شعار (الجيش العربي المصطفوي على قلوبهم قبل رؤوسهم) خاضوا الكرامة في وقت ضاعت به كرامة أمة.. فعز نظيرهم وخسر محاربهم... 

دلالات
الأكثر قراءة
00:00:00