بيانات المالية العامة تستجدي النزول عن تلكم الشجرة

الصورة
تطور المديونية العامة (مليون دينار)
تطور المديونية العامة (مليون دينار)

رسالة استجداء ضمنية تقدمها بيانات المالية العامة للحكومة بالنزول عن تلكم الشجرة التي تنكر الاعتراف بوجود إشكالية عميقة، ليس فقط في سياساتنا المالية وإنما في السياسات الاقتصادية بكل تفاصيلها، مما يستوجب العمل سريعا على تبديلها بنهج أكثر فاعلية ومسؤولية ومحاكاة للواقع. ما لفت انتباهي صراحة، الخلاصة التي تصدرت الصحف ومفادها بأن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي قد تراجعت في النصف الأول من هذا العام بنحو نصف نقطة مئوية، وبصراحة ما أثار فضولي ليس النسبة بحد ذاتها، وإنما الإصرار على الاستشهاد بأي مؤشر كان للدلالة على تحسن ما، في الوقت الذي تشير فيه جميع المعطيات إلى خلاف ذلك، وما زلنا مصرين على الاستشهاد بشهادات مؤسسات ووكالات دولية في الوقت الذي لا نعير فيه أدنى انتباه للشهادات المحلية، من الشركات والأفراد، التي تزداد أنينا يوما بعد يوم. 

"خدمة الدين أصبحت تستحوذ على ما يقترب من ربع الإيرادات العامة، وإذا ما استمررنا على النهج الحالي، فقد تصل إلى ثلثها خلال 5 سنوات وإلى نصفها في أقل من 10 سنوات".

الدين العام اليوم يزيد بنحو 41.4% عن مستوياته قبل أربع سنوات

ربما أكثر المؤشرات التي تستدعي التوقف عندها مليا، هي النسبة التي أصبحت تشكلها خدمة الدين العام للحكومة المركزية من الإيرادات الكلية، والتي وصلت في النصف الأول من هذا العام إلى نحو مليار و75 مليون دينار أي ما نسبته 22.9% من الإيرادات العامة، مقارنة بـ 18.1% في العام الماضي 2023، ونحو 14% في سنة 2019. وهي وتيرة مقلقة للغاية ونتيجة حتمية للتوسع الكبير في الدين العام على مدار السنوات الأخيرة الماضية، وبوتيرة أكبر خلال الشهور الستة الأولى من هذا العام. 

فاستحواذ خدمة الدين العام على نسبة تقترب من ربع الإيرادات العامة وهي الأعلى منذ بدايات تسعينات القرن الماضي، واحتمالية وصولها إلى الثلث خلال الأعوام الثلاثة القادمة وإلى نصفها في أقل من عشر سنوات إذا ما استمررنا على النهج ذاته، ستعني بالضرورة مزاحمتها لنفقات وبرامج ملحة كالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وستفضي أيضا إلى تعميق المسار التصاعدي الممتد لعجز الموازنة وتدخل المديونية العامة في دوامة الارتفاع المضطرد. فالمديونية العامة وصلت اليوم إلى مستويات قياسية جديدة وتخطت حاجز الـ60 مليار دولار أو ما يعادل 42.5 مليار دينار.

خدمة الدين العام كنسبة من الإيرادات العامة
خدمة الدين العام كنسبة من الإيرادات العامة
تطور المديونية العامة (مليون دينار)
تطور المديونية العامة (مليون دينار)

"غالبية بنود الإيرادات الضريبية تراجعت في مستوياتها عن النصف الأول من العام السابق، وهذا يثير التساؤلات عن مدى انسجامها مع النمو الاقتصادي المتحقق خلال الأشهر الأولى من هذا العام". 

اقرأ المزيد.. انتشال الاقتصاد من السقوط الحر

تراجع الإيرادات الضريبية لها دلالات مقلقة

المسألة الأخرى التي أيضا لها دلالاتها المقلقة، هي الإيرادات الضريبية التي سجلت في الشهور الستة الأولى تراجعا عن مستوياتها في الفترة ذاتها من العام الماضي، هذا على الرغم من زيادة الضرائب الضمنية على التبغ وخدمات الاتصالات والأهم من كل ذلك ارتفاع أرباح البنوك بشكل استثنائي في العام الماضي التي يفترض أن تنعكس إيجابا على عوائد ضريبة الدخل للنصف الأول من هذا العام. 

والمشهد يظهر أكثر قتامة إذا ما علمنا بأن التحصيلات الضريبية خلال هذه الفترة تقل بما يزيد على 500 عن المقدر لها في موازنة 2024. 

بطبيعة الحال، مرد ذلك ليس إلى الإدارة الضريبية التي أعتقد أنها أبلت أداء متميزا وساعدت كثيرا في الحد من نزيف السياسة المالية، وإنما إلى الأداء الاقتصادي بمجمله وبكل تفاصيله. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف لهذا التراجع في الإيرادات الضريبية أن يستوى وينسجم مع تحقيق الاقتصاد لنمو اقتصادي حقيقي بحدود 2% وأسمي ما يزيد على 4%؟ كيف لغالبية البنود الضريبية وهي التي يشكل الأداء الاقتصادي مصدرا لنموها أن تتراجع أو أن تنمو بوتيرة محدودة للغاية في ظل معدلات النمو الاقتصادي المقدرة؟ 

"النفقات الرأسمالية خلال النصف الأول من هذا العام تراجعت بنحو 15% عن مستوياتها خلال الفترة نفسها من العام الماضي، هذا في الوقت الذي أطلقت فيه الحكومة على موازنة هذا العام الموازنة الرأسمالية، وهو ما يعمق من حالة الركود الاقتصادي ويتعارض مع رؤية التحديث الاقتصادي".

 النفقات الرأسمالية رافعة لرؤية التحديث الاقتصادي

وعلى نحو آخر، تؤكد النشرة المالية المحدثة، على أن النفقات الرأسمالية للنصف الأول من هذا العام قد تراجعت بنحو 14% عن حجمها في الفترة ذاتها من العام الماضي، من 507 مليون دينار إلى 435 مليون، هذا على الرغم من إطلاق تسمية الموازنة الاستثمارية على الموازنة العامة لهذا العام. هذه الحقيقة تؤكد بدورها عن أن النفقات الرأسمالية وإن كانت في جانب كبير منها نفقات جارية، يعول عليها كثيرا في مثل هذه الظروف الاقتصادية الحانكة كمحرك للنمو الاقتصادي المقيد وكرافعة لرؤية التحديث الاقتصادي، حيث أصبحت الحلقة الإنفاقية الأضعف والتي يتم تخفيضها كلما تراجعت الإيرادات، وهذا يؤشر على أن قانون الموازنة العامة ذاته، لم يعد يعني شيئا وأصبح إجراء تشريعيا روتينيا لا أكثر، وهي مسألة تقوض من منظومة حاكمية المالية العامة التي قطعت شوطا تحسينيا كبيرا على مدار العقدين السابقين. 

"العدوان الغاشم على أهلنا في غزة، أثر سلبا على اقتصادنا، لكن وتيرة التراجعات هي امتداد لغياب السياسات الاقتصادية "سكن تسلم" المتبعة خلال السنوات الأخيرة الماضية"

نعم العدوان الإسرائيلي الغاشم على أهلنا في غزة كانت له تأثيراته الممتدة على الاقتصاد الأردني، إلا أن الوضع قبل لم يكن بأحسن حالاته أو يسير ضمن المستهدف في رؤية التحديث الاقتصادي، حيث جاء هذا العدوان ليزيد من النزيف الاقتصادي الذي نعاني منه في السنوات القليلة الماضية وبدلالة المؤشرات التي تؤكد على أنها ماضية في الوتيرة نفسها من التراجع الممتد. 

هذه المعطيات وغيرها من التفصيلات تستدعي جهدا فكريا وموضوعيا عميقا للبحث في كيفية الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي كان السبب الرئيسي وراءها، الإمعان في الاهتمام بتزيين مؤشرات الأداء وانتقائها لنسج قصص نجاح غير واقعية وشعبوية "النهج الانطباع-قراطي"، والابتعاد عن الحلول العملية التي تلامس الواقع، وتتعامل مع الاقتصاد الأردني على أنه رحلة ممتدة للازدهار وليس كمرحلة عبور زمني.  

اقرأ المزيد.. الانطباع- قراطية: مشروع التأمين الصحي كأنموذج

الأكثر قراءة
00:00:00