الانطباع- قراطية: مشروع التأمين الصحي كأنموذج

الصورة
طبيب يسجل بيانات مريض | ذكاء اصطناعي: freepik
طبيب يسجل بيانات مريض | ذكاء اصطناعي: freepik

لطالما شكل عمل الدماغ وتقاسم الأدوار الفكري بين شقيه الأيمن والأيسر حيرة بين العلماء والمختصين، إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا على أن لكل منهما نطاق اختصاص يكمل الآخر، فأحد الشقين، دون تحديد اتجاهه، مسؤول عن تكوين الانطباعات الأولية وردود الأفعال السريعة والعاطفية وكل ما هو عابر، والشق الآخر مسؤول عن التفكير العميق المبني على التحليل والحجج والبراهين في معزل عن الانطباعات والعواطف وما إلى ذلك. ودرجة الاعتماد على كل منهما هي التي تحدد ماهية التفكير الفردي فهو الذي يجعل الفرد إما عميقا أو منطقيا أو متهورا أو عقلانيا أو عاطفيا. 

مشروع التأمين الصحي حلم لم يتحقق بعد

لا أستجلب هذه المقدمة ترفا ولا إقحاما لنفسي في حيز لا أفقه فيه شيئا، وإنما مشاركة لتجربة خضناها وأسعى جاهدا لتأطيرها لعلها تمنحنا جميعا فرصة الاستفادة منها، ولم أجد أكثر من معجزة الله تعالى في خلقه، الدماغ البشري، استرشادا لتفسير حالة الشلل البرامجي التي نعاني منها منذ سنوات؛ فمنظومتنا المؤسسية ما هي في المحصلة إلا نتاج نهج جمعي يرسمه العقل البشري المتداخل في هذه المنظومة. ولهذه الغاية، لم أجد أفضل من مشروع التأمين الصحي بوصفه الحلم الذي لم يتحقق بعد، حالة حاضرة يمكن الاسترشاد بها في هذه المحاولة التأطيرية، لفهم آليات اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمصيرية في ظل الأنماط المختلفة من المنظومات المؤسسية. 

الضمان الاجتماعي عندما شرع بتطبيق التأمين الصحي، كان مدركا تماما لدرجة التعقيد التي تحيط بهذا الملف، فهناك هواجس موضوعية مرتبطة بالتمويل وهناك حالة منقطعة النظير من تضارب المصالح، وهناك صراع خفي محتدم حول الأدوار. 

في المقابل، هناك العديد من الاعتبارات التي تدفع باتجاه تحقيق إنجاز فعلي على أرض الواقع، فأعباء المعالجات الطبية ترمي بثقالها على المواطنين، وهناك أعباء متنامية على الخزينة العامة جراء التوسع في الإعفاءات الطبية، والمؤسسات العلاجية العامة تئن جراء التخلف عن سداد مستحقاتها، وترتيبا على ذلك فخدماتها في تراجع مستمر. وهناك صراعات مصالح محتدمة بين كافة الأطراف المعنية بالقطاع الصحي والمواطن ليس في حساباتها بتاتا، وكل ذلك مرده إلى غياب مظلة وطنية للتأمين الصحي التي إن وجدت، فإنها ستكون قادرة على ضبط إيقاع القطاع بأكمله.

وباعتبار مؤسسة الضمان الاجتماعي مؤسسة عامة تنظيميا في موازاة استقلالها المالي، فقد طرحت المؤسسة تصورها على الحكومة وكانت تعول على مساهمتها المالية والتنظيمية وبما يفضي إلى تحقيق مصلحة الأطراف المعنية كافة ومنها الحكومة ذاتها. فاعتماد مظلة وطنية للتأمين الصحي من شأنه ضبط نفقات الإعفاءات الطبية والتخفيف على كاهل الموازنة العامة. 

بعض أعضاء الحكومة وقفوا في وجه مشروع التأمين الصحي

أمام كل ذلك، فقد واجه مشروع التأمين الصحي قوى شد عكسي من بعض أعضاء الحكومة ذاتها وخصوصا فيما يرتبط بمساهمتها المالية في التأمين، فهي تفترض ضمنا بأن عبء الإعفاءات الطبية ما هو إلا عبء دفتري لا يوجد ما يلزم الوفاء به، هذا فضلا عن ما تم استنتاجه بأن الملف لا يندرج ضمن أولوياتها، فقد تحدثنا خلال اللقاءات والاجتماعات التي جمعتنا بالفريق الحكومي عن كل شيء إلا عن التأمين الصحي. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد باركت الحكومة للمؤسسة مشروعها هذا وطلبت منها تطبيقه منفردة دون التعويل على أي مساهمة فاعلة منها. 

الضمان الاجتماعي أجرت حوارا وطنية لمدة عام للتشاور حول التأمين

في هذه الأثناء كانت المؤسسة قد شرعت بإجراء حوار وطني امتد إلى قرابة العام شمل جميع محافظات المملكة بمؤسساتها الأكاديمية وغرف التجارة والصناعة والنقابات وغيرها للتشاور حول الترتيبات المناسبة للتأمين، من حيث التغطية والاشتراكات والفئات المشمولة وكافة الأمور التنظيمية المرتبطة بالتأمين. كما شمل الحوار الجهات الشريكة في القطاع كشركات التأمين وإدارة التأمين والمستشفيات للتباحث في توزيع الأدوار المحتمل بما يحقق المصالح المشتركة التي يتوجب أن لا تتعارض مع مصالح المنتفعين من التأمين. 

وفي هذه الأثناء أيضا، كانت المؤسسة قد أجرت الدراسات اللازمة لتقدير الكلف المالية للتأمين من خلال مؤسسة دولية لديها شبكة من الخبراء المختصين بالتقديرات المالية لأنظمة التأمين الصحي، وطلب من جهة دولية أخرى أن تقوم بالإجراء ذاته، والجهتان توصلتا إلى تقديرات متقاربة، إلا أن الأخيرة توسعت في دراستها، وعلى ما يبدو أن ذلك جاء بناء على طلب المسؤولين، وأصبحت تتحدث عن تحديات ومعضلات عامة وهشة من الناحية الفنية والغاية منها إجهاض مشروع التأمين الصحي. 

وحتى لا أطيل في السردية المليئة "بالتفاصيل"، فكغيره من المشاريع الوطنية التي لم نحسن التعامل معها وإطلاقها، فقد اغتيل مشروع التأمين الصحي بفعل هواجس غير مبررة لدى المسؤولين مشفوعة بحجج غير موضوعية حول التأثيرات السلبية المحتملة للتأمين على المستقبل المالي للضمان، علما بأن المشروع كان يقترح استقلالية مالية تامة للتأمين عن باقي تأمينات المؤسسة. بل أقول إنها هواجس مفتعلة، لأنها جاءت متوازية مع طرح غير مسؤول يتعلق بمسألة أخرى غير مرتبطة بالتأمين الصحي تقدم به المسؤولون ذاتهم، خضنا والزملاء في المؤسسة صراعا امتد لأكثر من ستة أشهر لدرئه، وقد تمكنا بالفعل من ذلك بمساندة من أجهزة الدولة التي تصرفت بمسؤولية وبعد نظر. 

مشروع التأمين الصحي مثال على النهج المستند على الانطباعات 

ومما يؤكد على أن إجهاض مشروع التأمين الصحي كان غاية بحد ذاتها، إننا ما زلنا ننتظر الوعود التي قُدمت للسير قدما بهذا المشروع بعد إجراء مزيد من الدراسات، لكن تلك الوعود لم تأتِ بعد، مع يقننا بأنها لن تأتي أبدا. 

هذه الحالة ما هي إلا مثال على ذلك النهج القيادي والإداري الذي يستند في قراراته على الانطباعات، لا على الحجة والبراهين، وهو ذاته الذي يتخذ من التأثير في الانطباعات هدفا نهائيا لحقبته، وهو يدفع بالضرورة إلى تجنيد الجزء الهش من الجسم الإعلامي لتشكيل تلك الانطباعات. 

ومن هنا تظهر الثنائيات والمفارقات، صناعة نماذج بطولية من شخصيات تلكأت بالقيام بالمهام الموكلة إليها على نحو ألحق ضررا كبيرا في اقتصادنا، ومراكز متميزة للخدمات في مقابل خدمات مترهلة في باقي الوزارة والمؤسسات، وهكذا. مشروع التأمين الصحي ما هو إلا مثال صارخ على نمط عمل المدرسة الانطباعية، والأمر يندرج على مشاريع أخرى كالناقل الوطني ومشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وغيرها الكثير. 

إنها ثنائية "الحكم بالانطباعات" Impressioncrat أو كما أسميها بالانطباع- قراطية، وهو الإسقاط الذي يحاكي الاعتماد على شق واحد من الدماغ. 

اقرأ المزيد.. انتشال الاقتصاد من السقوط الحر

الأكثر قراءة
00:00:00