مدير عام الضمان الاجتماعي سابقا
انتشال الاقتصاد من السقوط الحر
في خضم الأزمة التي ولج فيها الاقتصاد الأمريكي في نهايات العقد الثاني من القرن الماضي، كان الرئيس الأمريكي آنذاك "هيربيرت هوفر"، الذي اختاره الناخبون الأمريكيون على منافسه الديموقراطي الذي كان يحمل أجندة وخطة واضحة للنهوض بالاقتصاد الأمريكي، يعتقد بأن كل ما يجري مرده إلى الخوف والنظرة السلبية لدى الشعب الأمريكي، فهو لم يكن ليعترف بوجود أزمة بالأساس، بل وصلت فيه المواصيل ليصرح ويعتقد بأن جانبا كبيرا ممن تركوا وظائفهم "خسروها بالأحرى" قد اختاروا ذلك بأنفسهم وتوجهوا لمهنة أكثر ربحية وهي بيع التفاح. وفي فبراير 1931، أي خلال خضم أعمق للأزمة، صرح لصحفي يدعى ريموند كلايبر أن كل ما تحتاجه البلاد هو "ضحكة كبيرة". كانت هذه مقدمة معترضة، أما بعد،
سياسة سكّن تسلم وجمّل "تحلى" أذت الاقتصاد
فعلينا أن ندرك بداية أن التعامل مع التحديات والمشكلات التي تواجهنا يكمن جلها بتشخيصها بداية ومن ثم الاعتراف بها. غالبية المؤشرات التي ظهرت خلال الأشهر الأولى من هذا العام جميعها تنذر بأوضاع اقتصادية صعبة يتوجب التعامل معها بجدية ومسؤولية. فالمديونية أصبحت حرفيا خارج السيطرة بعدما دخلت منحى الارتفاع المضطرد وخدمتها ستستمر في الاستحواذ على جانب أكبر من الموازنة شهرا بعد شهر، وليس عاما بعد عام، وانحسار نمو الإيرادات العامة بقيمة لم تتجاوز 40 مليون خلال الشهور الخمسة الأولى من هذا العام ما هي إلا إشارة صريحة بأن الاقتصاد قد تضرر بفعل سياسات "سكن تسلم" و"جمّل تِحلى".
وكذلك الرقم القياسي للناتج الصناعي الذي أفردت له إحدى صحفنا اليومية عنوانا عريضا "بالنمو" في الوقت الذي لم يتجاوز فيه 0.4%، أي أقل من نصف نقطة مئوية. والاستثمارات الأجنبية تراجعت بنحو الثلث عن مستواها المتراجع أساسا في العام الماضي، والبطالة في أعلى مستوياتها، والحركة التجارية في انحسار مقلق للغاية، وغيرها الكثير.
نعم للحرب الإسرائيلية المستعرة على أهلنا في غزة تأثيراتها السلبية على اقتصادنا، لكن ما نشهده اليوم أعمق وأكبر من أن يفسر بارتداداتها، وإذا ما استثنينا السياحة التي انتعشت في العام الماضي بفعل التعطش العالمي للسياحة بعد ما فرضته الجائحة من قيود، فإن غالبية التراجعات ما هي إلا امتداد للسنوات الأخيرة السابقة.
تعقد مشهد الاقتصاد يجب أن لا يدفعنا للتنصل من الحلول والمسؤوليات "ليس بالإمكان أفضل مما كان" و"ليس باليد حيلة" أو ليأتي أحدهم بالعصا السحرية، تهكما، ما نريده حقا، هو قدر بسيط من الشعور بالهم العام والإرادة المصحوبة بالشغف والمسؤولية، فربما وصلنا لمرحلة لم يعد فيها المسؤول يفكر سوى باللقب الذي سوف يلازمه ما دام حيا.
ليس هنا بصدد طرح حلول سحرية لانتشال اقتصادنا من حالة القفز الحر، التي تشير مجازا إلى فقداننا لزمام السيطرة على حالة التدهور التي يعيشها اقتصادنا الوطني، ولكن سأطرح على المهتمين والمختصين عددا من النطاقات السياساتية التي قد تشكل مجالا للتعامل مع معضلتنا الاقتصادية والحوار حولها.
حوكمة المطبخ الاقتصادي
اليوم، أصبحنا بحاجة ملحة لإعادة النظر بالأهداف التي يجب أن تضطلع بها الحكومات والتي يجب أن تكون أساسا لتقييمها. فنحن لسنا معنيين بالتصنيفات والإشادات والجوائز العالمية التي حظيت بقدر كبير منها البلدان التي دخلت بأزمات اقتصادية خانقة، نحن معنيون فقط بمدى تحقيقها لأهداف نهائية قابلة للقياس وتحاكي تطلعات شعبنا وقيادتنا. فعلى سبيل المثال، في السياسة المالية، فإن المعيار الحقيقي للإنجاز هو مدى قدرتنا على ضبط المديونية العامة وخدمتها، فقط لا غير، والفيصل اقتصاديا، معدل النمو المتحقق كليا وقطاعيا وفي معزل عما تحققه الصناعات الاستخراجية، وفي معدل البطالة الذي يتوجب تتبعه جنبا إلى جنب مع معدلات المشاركة الاقتصادية التي قد يكون انخفاضها سببا لانخفاض الأول، وهي الحالة التي لا أتردد بتسميتها بالانخفاض الوهمي للبطالة، واستثماريا بمدى النمو في الاستثمارات القائمة على أرض الواقع وليس على الورق والسجلات التجارية والاستثمارية، وما إلى ذلك.
وبشكل مصاحب لذلك، ربما هناك حاجة لتشكيل لجنة وطنية من الاقتصاديين من ذوي الخبرة والدراية العميقة على غرار مجلس التخطيط القومي؛ للعمل على إجراء مراجعة دورية، ربما نصف سنوية، لمدى تحقيق الحكومة للأهداف النهائية والتحقق من دقة ومعقولية البيانات والمعلومات التي يتم الاستشهاد بها، وهي تشكل أيضا فرصة لطي صفحة الكتاب للاقتصاديين المغمورين.
وترتيبا على ذلك، ترفع اللجنة تقاريرها بشكل دوري إلى مجلس الأمة الذي يتوجب أن يتخذ الإجراءات اللازمة بموجب الصلاحيات والمسؤوليات التي أناطه بها الدستور، وهنا نعول كثيرا على مسار التحديث السياسي الذي أصبح أيضا عرضة للمراهقات السياسية والممارسات غير الناضجة.
اقرأ المزيد.. "ذلك يعتمد عليكم"، أين وصلنا في تنفيذ خطط الرؤية الاقتصادية؟
إطلاق الإمكانات بدلا من إطلاق العنان لها
ربما حان الوقت الآن للاعتراف بأن المنطلقات التي بنيت على أساسه رؤية التحديث الاقتصادي والتي حملت عنوان "إطلاق العنان للإمكانات" لم تعد كافية لحل إشكاليات الاقتصاد التي دخلنا في معتركها، اليوم أصبحنا بحاجة للإمكانات ذاتها.
وهنا، أعتقد أنه لا بد من تدخل حكومي يتسم بالزخامة لإعطاء دفعة قوية لاقتصادنا وتنفيذ مشاريع كبرى كفيلة بتحريك كافة القطاعات، وربما أهم هذه المشاريع مشروع الناقل الوطني الذي لا أرى خطورة في تمويله بالدين العام جنبا إلى جنب مع مساهمة استثمارية قوية من صندوق الاستثمار. فهنا يتوجب التمييز بين "الدين المنتج" الذي بإمكانه توليد عوائد قادرة على سداده وربما المساهمة في سداد النوع الآخر من الدين الذي أمعنا فيه وهو "الدين المُهلك" الذي يستخدم لتمويل الإنفاق الجاري الذي لا نملك أي رؤية حول كيفية سداده في المستقبل. وفي معرض تناول مشروع الناقل الوطني، فقد يكون من المناسب العودة إلى التفكير ودراسة مشروع قناة البحرين وأيضا موضوع خدمة العلم التي قد تشكل رافعة قوية لتنفيذ المشروع.
ملف الطاقة
ولن أسترسل كثيرا فيه وفي العبء الذي يشكله على قطاعاتنا الإنتاجية والخدمية وعلى جاذبية اقتصادنا للاستثمارات الجديدة، ما أود طرحه، إن أي حلول تبتعد عن الدفع بمستويات استهلاكه إلى ما يزيد من حجم الكميات المتعاقد عليها والملزمين بها، فما هي إلا محاولات مجتزأة وليست ذات أهمية. فزيادة حجم الاستهلاك المحلي من الكهرباء سيسمح بالاستفادة من كلف الكميات المتعاقد عليها غير المستهلكة، والأهم من ذلك، بأنها ستسمح بدخول طاقات توليدية جديدة بكلف منخفضة. أتفهم جيدا الهاجس المالي المرتبط بالتحول من المشتقات النفطية إلى الكهرباء، والمتمثل بانخفاض عوائد الخزينة العامة من ضرائب الأولى، ولكن هناك إمكانية لإعداد ترتيبات تنظيمية تحول دون ذلك.
اقرأ المزيد.. زيادة الإنفاق الحكومي خلال الربع الأول من العام بنحو 101 مليون دينار
سوق العمل
ربما هو الحيز الذي إن حسُن تنظيمه وفقا لاعتبارات اقتصادية وتنظيمية عميقة، فالمجال واسع لتحقيق تحسن ملحوظ في مستويات تشغيل الأردنيين والحد من معدلات البطالة بينهم حتى في ظل تحقيق معدلات متواضعة من نمو الاقتصاد.
المالية العامة
أعتقد بأننا وصلنا لمرحلة أيقنا فيها أن لا بديل عن الشفافية والوضوح، وحان الآن العودة إليها. فموضوع السلف خارج الموازنة لا بد من التخلص منه بشكل تام والمتأخرات لا بد من معالجتها، فهو الآن يعصف بديمومة عمل العديد من المؤسسات والشركات التي لم تتوانَ عن تزويدنا بما نحتاجه من سلع وخدمات وربما يقبع العديد من مالكيها في القطاع الخاص وراء القضبان بفعل عجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم تجاه مورديهم.
بكل تأكيد، هناك العديد من الملفات الملحة التي يتوجب الالتفات إليها وربما التعرض لها لاحقا، لكن كما كانت هي المقدمة معترضة، فالخاتمة هي كذلك. فهند انتهاء ولاية الرئيس "هوفر"، ارتفعت أعداد المتعطلين من نحو 1.5 مليون إلى ما يقرب 4.5 مليون شخص، وطوابير من جمهور الطبقة الوسطى كانوا يصطفون للحصول على قدر بسيط من الحساء الساخن لسد جوعهم وتدفئة أجسامهم من برد الشتاء القارس.
اقرأ المزيد.. أمام كل هذا الصخب.. لا بد من استعادة المؤسسية