كاتب سياسي وباحث في الدراسات الإسلامية
نصائح للعائلة المالكة
بقلم: غيث القضاة
أقترحُ أن نتخلصَ من جيلٍ كاملٍ من الحاشية؛ أصحاب النهج القديم العالقين في الماضي، تلك النعامات التي تدفنُ رأسها في الرمال، الذين يمنعون القصر من التطور شأنهُ شأن بقية العالم، وأقترحُ كذلك الاقتراب من الشعب وإنزال ذلك الجسر المتحرك الذي يحولُ بينكم وبين الشعب، ولا بد من قضاء بعض الوقت مع الناس العاديين؛ فهؤلاء من يستحقون أن تقضى الأوقات معهم وليس الحاشية والوزراء والأعيان الذين يُقدسون مصالحهم، وذلك للاقتراب من الناس والشعور بهم؛ فهم الطبقة العاملة المهمة التي لا بد من الاقتراب منهما واستقبالها مرة واحدة على الأقل في السنة في قصرك، وذلك لجعل الناس البسطاء يعرفونك أكثر ببساطة ويقتربون منكم بواقعية ومن دون تكلف.
هذا جزءٌ من النصيحة التي قدمها اللورد "الترينكنهام" للملكة إليزابيث الثانية عندما شعر أن المَلَكية في بريطانيا بدأت تفقدُ سحرها وألقَها وبريقها في نفوس الناس، وبات يخشى على العرش وسمعته وثباته، فكتب مقالا انتقد فيه الملكة حينها، وشارك كذلك في برنامج إذاعي عرضَ فيه وجهة نظره وخشيته على العرش وسمعته، فاستدعى القصر هذا اللورد وقابلتهُ الملكة شخصيا والتي أرادت أن تتعرف على حقيقة وصدق ما يقول، وطرحَ عليها ثلاث نقاط يجب أن يتوقف القصر عن فعلها وثلاث نقاط أخرى يجب أن يقوم بها القصر فورا، فأخذت الملكةُ بمقترحاته ونصائحه؛ تلك النصائح التي لم تنتبه لها الحاشية المُقربة من القصر لأن الأمر لا يعنيها وقدرتهم قاصرة عن استيعاب ذلك، واعترف القصر لاحقا بأن هذا اللورد فعلَ ما يجبُ فعله في القرن العشرين ليساعد الملكية والعرش الملكي في بريطانيا على الثبات والاستمرار، كانت النصيحة في الخمسينيات وتوفي هذا الرجل عام 2001، ونعاهُ القصر الملكي بكلماتٍ مؤثرة وعميقة تخليدًا لصدقهِ وحرصه.
كان الدكتور محمد الحموري -رحمه الله- وهو الفقيه الدستوري المعروف وصاحب الخبرة الطويلة في دراسة تاريخ الشعوب، يعتقد بخشية شديدة أن إرهاصات ما يحصل في الأردن في هذه الفترة يشابه إلى حد كبير الإرهاصات التي سادت أجواؤها في أوروبا قبل قدوم الربيع الأوروبي الذي اجتاح قارة أوروبا في زمن الملكيات الأوروبية، وتبعتها بطبيعة الحال الإصلاحات السياسية هناك؛ فلقد ساد حينها تغول الحكومات وانخفاض سقف الحريات وغاب تداول السلطة واكتفت الدول حينها بديمقراطية شكلية وأحزاب غير قابلة للنمو، وغاب الرأي الآخر، وازداد الدور السلبي للبطانة الفاسدة والنُصّاح في تركيز السلطة في يد جهة معينة وتم تجريف الكفاءات، وتم كذلك اختلاق أشباح من الأعداء لنظام الحكم من بين أبناء الشعب وأُعلن الانتصار عليهم وبالتالي ساد حكم الأشخاص بدلا من حكم القانون، وكان ينصحُ ويقول بأن في التاريخ عبرة وعظة، وحركة التاريخ تتكرر بلا شك، فالحتمية التاريخية تفرض أن الإصلاح قادم ولو بعد حين.
يُقلقني تلك المقاربات الأمنية التي ما زالت تُصر على هندسة الانتخابات النقابية وغيرها، وتُقلقني تلك العقلية الأمنية التي ما زالت تستمتع باستخدام وسائل العقود القديمة لتمرير مخططاتها ومشاريعها، وهنا يبرز السؤال المهم لمصلحة من يتم ذلك؟ وما هي الفائدة المرجوة من هذا التدخل؟ باستثناء أنها تُسيء للدولة والنظام وتُقلص من شعبيته وقبوله، ويُقلقني جدا تلك العراقيل التي توضع أمام المبادرات الإصلاحية مهما كانت متواضعة، ويقلقني كذلك عدم القدرة على الانتهاء والبت في قضايا وملفات فساد ننتظرُ نتائجها من سنوات، ويقلقني عدم قدرة البطانة والحاشية على تقديم نُصح حقيقي يُمثل نبض الناس وأوجاعهم، ويُقلقني تلك الترتيبات للقاءات الخاصة في الديوان الملكي التي يدعون إليها عادة أشخاصا لا يعرفون الناس ولا الناسُ تعرفهم، أو رؤساء وزراء أو وزراء أو مسؤولين كانوا سببا في كل هذا الفساد والتخبط الإداري الذي نعيش ونلمسُ نتائجه في كل يوم، فكيف يستطيع أولئك "العاجزون" أن يُقدموا حلولا لمصائب وأزمات كانوا هم سببا رئيسيا في وجودها!
من المناسب التذكير بضرورة أن يقوم الديوان بعملية تقليص للمصاريف الداخلية بشفافية ووضوح، وبتبني مشاريع مباشرة يلمس الناس أثرها كتطوير وتأهيل أقسام الطوارئ في مستشفيات حكومية، وكذلك إعادة تأهيل بعض الغرف الصفية المتهالكة في بعض المدارس وتزويدها بالتدفئة وغير ذلك، والتفكير بالمشاريع الإنتاجية الصغيرة التي تُقلص البطالة وتؤهل الشباب للعمل في المحافظات دون تكلفٍ أو تزيين.
تطورتْ الملكية في بريطانيا وتقدمت وحافظت على وجودها وألقها، بسبب نصائح الحاشية الصادقة الحريصة المُحبة وصاحبة الخبرة والاطلاع على تجارب الشعوب واقترابها من الناس، وبفعل الشفافية ونظام الحوكمة الرشيدة الذي يجعل الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، ناهيك عن احترام نصوص الدستور التي تجعل العائلة المالكة في مكان مُقدّر في قلوب الجميع، وتجعل الجميع كذلك في مكان مُقدر في قلوب العائلة تستمع لنُصحهم وتتقبلُ نقدهم وتُقصي المُتسلقين والمستفيدين، وتجعل الشعب هم مصدر السلطات الحقيقي عبر ممارسةٍ دستورية طويلة ومتماسكة.