صعّدت قوات الاحتلال عدوانها على شمال قطاع غزة حيث اعتقلت عشرات الفلسطينيين، خصوصا في منطقة جباليا كما واصلت قصفها المدفعي والجوي لمناطق
جنين، معقل الثوار وواحة الصمود عبر التاريخ
تحظى جنين بالعديد من محطات المقاومة والتضحية في تاريخها، حيث أنها كانت مطمعاً لدى الكثيرين منذ نشأتها في العصر الكنعاني، ومن ثم تحولت إلى معقل للكفاح ضد الانتداب البريطاني، وساحة للصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي وشوكة في حلقه حتى يومنا هذا.
بداية قصة المقاومة والصمود في جنين
بدأت جنين بتسطير قصص صمودها في عام 1799 عندما قام أهاليها بإحراق بساتينها وغاباتها في محاولتهم التصدي لحملة نابليون عندما استهدفت مدينتهم، لوقف زحف الجنود الفرنسيين، الذين دخلوا المدينة آخر الأمر، قبل أن يأمر نابليون جنوده بحرقها ونهبها انتقامًا من أهلها الذين أبوا الاستسلام وأشعلوا شرارة التحدي والمقاومة.
وفي عام 1918 رزحت جنين تحت نار الانتداب البريطاني حالها حال باقي المدن الفلسطينية، لتعود بعد عقدين من الزمن لتتسيد مسيرة المقاومة والصمود، وهذه المرة ضد واحدة من أكبر الدول الاستعمارية في التاريخ، عندما قامت أول ثورة ضد الانتداب البريطاني والوجود الصهيوني في فلسطين عام 1935 بقيادة الشيخ عزالدين القسام، الذي قاد مجموعة صغيرة من الفلسطينيين المسلحين في اشتباك مع قوة شرطة بريطانية على تلال قرية يعبُد في جنين. لتتحول المدينة بعد ذلك إلى بؤرة للمقاومة الفلسطينية التي انتقلت قيادتها بعد استشهاد القسَّام عام 1936 إلى أحد أبناء المدينة، الشهيد فرحان السعدي.
وفي عام 1938 قام الثوار بعملية نوعية أسفرت عن اغتيال قائد بريطاني كبير في مكتبه بجنين، قامت على إثرها القوات بهجوم كاسح على مدينة جنين غداة يوم الاغتيال، نتج عنه تدمير ما يقارب من ربع مساحة المدينة.
وفي فصل آخر من فصول صمود المدينة، وبعد أن تمكن الإسرائيليون من احتلال جنين لفترة وجيزة خلال حرب عام 1948، وهروب الكثير من سكان المدينة تحت وطأة القصف، دفع صمود المقاتلين الفلسطينيين والجيش العراقي الذي كان يتولى الدفاع عن المدينة العصابات اليهودية إلى الانسحاب منها، بل وتمكنوا من استرداد عدد من القرى حول المدينة، ما أبقى المدينة خارج مجال السيطرة الإسرائيلية.
وفي عام 1950، تم إنشاء مخيم جنين في ضواحي المدينة لإيواء مهجري النكبة الذين اغتصب الاحتلال الإسرائيلي منازلهم وأراضيهم، قبل أن يتحول إلى مقر للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وليصبح نواة لـ"عش الدبابير" فيما بعد.
وكان لجنين نصيب كبير من التضحيات عند اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، حيث كانت في مقدمة المدن الفلسطينية التي قاومت الاحتلال. كما وقف مخيمها سداً منيعاً أمام جيش الاحتلال الذي حاصر المخيم لـ60 يوما دون النجاح في اختراقه.
جنين وعملية الدرع الواقي: ملحمة صمود ومجزرة بوجه معركة
في عام 2002 أطلقت القوات الإسرائيلية عملية تعرف بـ "الدرع الواقي" لإعادة السيطرة على مدن الضفة الغربية، والقضاء على بؤر المقاومة التي نشأت فيها في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى أو "الانتفاضة الفلسطينية الثانية" كما ذهب البعض لتسميتها. والتي شاركت فيها جميع الفصائل الفلسطينية.
فبعد أن أصبحت جنين في تلك الفترة ملاذاً آمنا للمقاتلين من شتى الفصائل الفلسطينية، وبعيداً عن إحراج السلطة الفلسطينية في اعتقالهم وفقاً لبنود اتفاقيات أوسلو، وضع هؤلاء أنفسهم أمام خيار وحيد لامفر منه، وهو الصمود والقتال حتى النهاية، حيث أن انتقالهم لمكان آخر كان يعني تعرضهم إما للاغتيال أو الاعتقال.
وهناك، في تلك البقعة الضيقة، تجمع مقاتلو الفصائل الفلسطينية تحت قيادة يوسف ريحان "أبو الجندل"، وهو ضابط سابق في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني انخرط في المقاومة داخل المخيم، لتبدأ ملامح معركة الصمود القادمة بالوضوح، طرفها الأول نحو 200 مسلح فلسطيني، في حين حشد الطرف الثاني أكثر من 20 ألف جندي مجهزين بأحدث الأسلحة، مدعومين بالآليات والطائرات الحربية.
دام القتال في تلك المعركة نحو 10 أيام، اضطرت القوات الإسرائيلية في اليوم السادس منها إلى تكثيف غاراتها على المخيم، والاستعانة بالجرافات لفتح الطريق أمام القوات المهاجمة، إلى أن تمكنت من حسم المعركة لصالحها بفضل عدم توازن القوى، وبعد أن دمرت المخيم بشكل كبير، كما أنها منعت وصول عربات الإسعاف والمساعدة الطبية إلى المصابين،كما استخدمت حينها قوات الاحتلال المدنيين كدروع بشرية، مسجلة واحدة من أبشع جرائم الحرب التي شهدها التاريخ، بحسب ما أكدته المنظمات الحقوقية الدولية آنذاك.
قدمت جنين في تلك المجزرة أكثر من 50 شهيداً معظمهم من المدنيين، كما تم هدم المئات من المنازل وتشريد أكثر من ربع سكان المخيم. أما الاحتلال، فقد تكبد خسائر بشرية قدرت بنحو 28 جندياً. 13 منهم قتلوا نتيجة كمين نصبه المقاتلون الفلسطينيون في حي الحواشين.
المشهد يعيد نفسه في الاجتياح الأخير للمخيم
واليوم، يعيد الاحتلال استخدام ذات الأساليب "الهمجية" التي استخدمها في جرائمه سابقا، من قتل للمدنيين واستخدام الجرافات لهدم البيوت وإجلاء المدنيين من المخيم وعمليات القتل العشوائي، وعرقلة دخول الطواقم الطبية لإسعاف المصابين، وفقاً لما أفادت به منظمة أطباء بلا حدود أمس. حيث أسفرت المجزرة عن استشهاد 12 فلسطينياً وإصابة أكثر من 100 آخرين 20 منهم بحالة حرجة.
ختاما، فإننا نجد أنفسنا أمام تساؤل تفرضه طبيعة المرحلة حول ما تسعى إليه إسرائيل من استهدافها جنين ومخيمها، في ظل التغييرات التي حدثت داخل كيان المحتل وسياساته، والتي تركز في الوقت الحالي على تهويد مدينة القدس وتفريغها من سكانها الأصليين، لترجيح كفة الاستيطان جغرافياً والمستوطنين ديموغرافياً. إضافة إلى التحول الكبير في السياسة الإسرائيلية تجاه القدس، بعد تسلم اليمين المتطرف زمام الحكم في هذ الكيان.