استشهد 10 فلسطينيين وأصيب 35 آخرين جراء العدوان العنيف الذي شنه جيش الاحتلال على مدينة جنين شمال الضفة الغربية أمس الثلاثاء. عدوان الاحتلال
عقيدة الجدار الحديدي.. من جابوتنسكي إلى جنين
القوة العسكرية نهج إسرائيلي لمحاولة سحق الفلسطينيين
في تصعيد جديد لنهج الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، شن جيش الاحتلال عملية عسكرية واسعة على جنين تحت اسم "الجدار الحديدي"، مما أدى إلى استشهاد 10 فلسطينيين ونزوح أكثر من 600 من سكان مخيم جنين.
هذه العملية تأتي في سياق متجدد لتطبيق عقيدة عسكرية صاغ أسسها زئيف جابوتنسكي المولود في أوديسا "أوكرانيا الحالية" عام 1880 والذي صاغ رؤية فكرية شكلت الأساس لظهور حزب الليكود والسياسات المتطرفة التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
أيديولوجية الجدار الحديدي: الجذور الفكرية لتوجهات نتنياهو
رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لا يفوت فرصة في خطاباته دون الإشارة إلى زئيف فلاديمير جابوتنسكي الذي يعده ملهمه ومرشده الروحي، مؤكدا أنه يحتفظ بسيفه ويحرص على قراءة أعماله باستمرار.
يشير إرن كابلان، رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو، في بحثه "لمحة عن الأيديولوجية التي توجه نتنياهو" إلى أن الحرب الإسرائيلية التي شنها نتنياهو في السابع من أكتوبر 2023 والتي خلفت كارثة إنسانية في غزة هي انعكاس لأيديولوجية "الجدار الحديدي". هذه الفكرة طرحها زئيف جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي، وكانت مصدر الإلهام الرئيسي لبنيامين نتنياهو طوال مسيرته السياسية الممتدة لعقدين.
من جهة أخرى، يرى زاك بوشامب، الكاتب الأمريكي المتخصص في الشؤون الدولية، في مقاله "الأفكار التي تحدد شخصية بنيامين نتنياهو" أن مواقف نتنياهو المتشددة والتي كثيرا ما تدفعه إلى خلافات حتى مع أقرب حلفائه مثل الأمريكيين، تنبع من انتمائه إلى التيار الصهيوني الأقدم والأكثر تشددا الذي أسسه جابوتنسكي.
جابوتنسكي، الأب الروحي للصهيونية المتطرفة، كتب قائلا:
"من الضروري إخضاع السكان الأصليين إلى أن يفقدوا أي بصيص للأمل في التغلب على الكيان الصهيوني الذي سيقام على ضفتي الأردن، إن كان ذلك من خلال بناء قوة قهر لا تقوى عليها شعوب المنطقة، أو من خلال إضعافها، أو كليهما مها".
كلمات تعكس الأساس الفكري الذي ارتكزت عليه سياسات التيار الصهيوني المتطرف، وساهمت في تشكيل رؤية حزب الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو اليوم.
الجدار الحديدي ليس مجرد اسم عملية عسكرية
الجدار الحديدي ليس مجرد اسم لعملية عسكرية، بل هو فلسفة سياسية وعسكرية صاغها جابوتنسكي في مقال نشر عام 1923. رأى جابوتنسكي أن العرب الفلسطينيين لن يقبلوا وجود كيان صهيوني على أرضهم، وأن تحقيق "الحلم الصهيوني" لا يمكن أن يتم إلا من خلال فرض واقع بالقوة العسكرية يقوم على بناء "جدار حديدي" من الردع العسكري يجعل الفلسطينيين يائسين من مقاومة المشروع الصهيوني.
في رؤيته، دعا جابوتنسكي إلى تشكيل أغلبية يهودية مدعومة من القوى الإمبريالية الغربية، مع تجاهل تام للتفاوض مع السكان الأصليين حتى يخضعوا تماما للأمر الواقع. هذا الجدار الحديدي لم يكن مجرد أداة لتحقيق أهدافه، بل تحول إلى هدف بحد ذاته يضمن استمرارية المشروع الصهيوني، وفق ما يراه بعض الباحثين.
من النظرية إلى التطبيق
اعتمدت حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة على هذه العقيدة كأساس في استراتيجياتها العسكرية والسياسية. من تهجير الفلسطينيين في النكبة عام 1948، إلى الاعتداءات على غزة والضفة الغربية، كرس الاحتلال نهجا يقوم على استخدام العنف المفرط لفرض وقائع جديدة على الأرض.
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد ديناميكيات المقاومة الفلسطينية، اختبرت حدود هذه العقيدة بشكل متكرر؛ فقد أظهرت معركة "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023 مدى هشاشة الجدار الحديدي أمام تكتيكات المقاومة المتطورة، حيث تمكن الفلسطينيون بأساليبهم المحدودة من إحداث اختراقات كبيرة في الدفاعات الإسرائيلية.
"الجدار الحديدي" في جنين
عملية "الجدار الحديدي" في جنين ليست استثناء من هذا النهج، بل تمثل تطبيقا مباشرا للعقيدة التي دعا إليها جابوتنسكي. الهجوم الذي استهدف المخيم كان يهدف إلى سحق أي وجود للمقاومة الفلسطينية في المدينة، عبر تدمير البنية التحتية وتهجير السكان.
ومع ذلك، فإن صمود الفلسطينيين وإصرارهم على البقاء يعكس تناقضات العقيدة الإسرائيلية التي تقوم على القوة كوسيلة لتحقيق الاستقرار لكنها تؤدي إلى مزيد من المقاومة.
هشاشة الجدار الحديدي: عقيدة كسرتها إرادة المقاومة
رغم مرور قرن على صياغتها، تبقى عقيدة الجدار الحديدي حجر الزاوية في الفكر الصهيوني. إذ اعتمد بنيامين نتنياهو، أحد أبرز قادة دولة الاحتلال اليوم، بشكل مباشر على رؤية جابوتنسكي، مشيرا إلى أن القوة هي الأساس في الحفاظ على المشروع الصهيوني.
إلا أن التحديات المتزايدة في غزة وجنين ولبنان تظهر أن العقيدة تواجه اختبارا حقيقيا، خاصة مع تغير طبيعة الصراع وانتقاله من مواجهات عسكرية تقليدية إلى أشكال جديدة من المقاومة، وذلك في وقت تظهر فيه المقاومة الفلسطينية قدرة على التكيف والابتكار، يزداد التساؤل حول مدى جدوى هذه العقيدة في مواجهة إرادة شعب يرفض الإذعان ويصر على حقوقه المشروعة؟
ففي السابع من أكتوبر 2023، وبعد أكثر من سبعة عقود على تطبيق استراتيجية جابوتنسكي، تعرض المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الدولة اليهودية لانهيار مفاجئ؛ حيث اخترق الفلسطينيون "الجدار الحديدي" بكل أبعاده جسديا ونفسيا في مشهد لم يتخيل المحتل حدوثه، بل حتى العرب والعالم فوجؤوا بهشاشة هذا الجدار الذي وصف بأنه حصن منيع. وقد تسببت هذه الاختراقات بفتح ثغرات تهدد بقاء "إسرائيل"، ما أعاد إحياء الآمال لدى الفلسطينيين بزوال المشروع الصهيوني.
اقرأ المزيد.. عدوان الاحتلال على جنين يستمر لليوم الثاني على التوالي