صحفي ومحرر أخبار
صفاء عاشور.. أم غزية فقدت بيتها ولم تفقد يقينها
في القطاع الذي ما يزال ينهض من تحت الركام، تتقاطع حكايات أطفال غزة مع تفاصيل الفقد اليومي، وتروي كل أسرة قصة من الألم والصبر والنجاة، وبين هذه الحكايات، تبرز قصة صفاء عاشور "أم الطفلة مريم الشرافي"، سيدة في الـ48 من عمرها تحمل على كتفيها حكاية عمر من الانتظار، وبيتا من التعب، وطفلة جاءت بعد دعاء طويل، لتجد نفسها اليوم تبحث فقط عن "خيمة" تضع فيها سريرا صغيرا لابنتها، دون زوجها الذي ارتقى خلال حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
الأم التي وُلدت من جديد مع ابنتها مريم التي تعاني كباقي أطفال غزة
صفاء لم تكن أما بسهولة، إذ خضعت لثلاث عمليات زراعة كلها باءت بالفشل، ووصفها الأطباء بـ"العاقر"، لكنها تمسكت بالدعاء، وبعد أن أتمت عقدها الرابع رزقت بطفلتها مريم، وتقول لمراسلة حسنى جنوب قطاع غزة مريم سلامة:
"ربنا عطاني مريم على الأربعين.. أنا بيني وبين بنتي أربعين سنة".
تبلغ مريم 8 سنوات أمضتها مدللة مصانة ومحاطة بكل ما يمكن لصفاء أن توفره، بحثت لها عن أفضل روضة وأفضل مدرسة وأفضل حياة يمكن أن تحلم بها أم لأملها الوحيد.
وبعد سنوات من الادخار والعمل، اشترت صفاء بيتها البسيط، بيت من تعبها، من ذهبها الذي باعته، ومن راتبها القليل، ومن نقود ورثتها عن والدها، بيت بلا ديكورات ولا رفاهيات، لكنه بيتها، وفي لحظة واحدة، تحول كل شيء إلى ركام.
كانت تخبز عندما اهتزت الأرض تحتها، زلزال من نار وغبار، صراخ مريم وركام ينهار فوق بعضه.
"شفت البلاط بيتفتح.. الأرض بتبلعني.. وأنا بصيح مريم مريم".
نجت هي وابنتها بمعجزة.. لكن البيت لم ينجُ بشكل كامل.
الحرب لم تنته.. الكبار فقط يقولون ذلك
عندما يتحدث العالم عن "انتهاء الحرب"، تبتسم صفاء بمرارة وتقول:
"الحرب خلصت للكبار.. إحنا الضحايا ولا إشي خلص".
اليوم تركض مثل آلاف الفلسطينيين خلف كوبون، أو ربطة خبز، أو "شادر" لصنع خيمة، أو مياه صالحة للشرب؛ كل ما تريده الآن مكان صغير تضع فيه سرير مريم داخل خيمة، تلك الطفلة التي كانت صفاء تحلم لها بأفضل المدارس، أصبح أقصى طموحها اليوم أن تجد لها مساحة آمنة تحت شادر مهترئ.
الخيمة… رفاهية جديدة
تعيش صفاء مؤقتا في غرفة ضيقة بمنزل شقيقها الذي صنع لها خيمة قرب بيت أهلها لتكون "أفضل" من الشارع، وتقول أم مريم بمرارة:
"صرنا نحكي إنه الخيمة جنب أهلي أحسن… صرنا ندور على حيطة نسند عليها".
مدرسة مريم… أول ما تبحث عنه الأم في كل نزوح
ورغم كل الدمار، ظل التعليم أولوية عند صفاء، وفي كل محطة نزوح كانت أول ما تبحث عنه هو مدرسة لمريم.
واليوم تذهب الطفلة إلى مدرسة قريبة، بلباس بسيط اشترته لها أمها كي تفرح في يومها الأول في المدرسة، ولكن دون احتفال لأن الحزن يغطي كل شيء.
من يوم ميلادها السادس… إلى يوم ميلادها التاسع تحت القصف
تشبه صفاء الفرق بين يوم ميلاد ابنتها مريم السادس والتاسع:
"الطفلة التي احتفلت بميلادها السادس ببيت دافئ، تستقبل عامها التاسع في مكان مؤقت، بلا بيت وبلا ألعاب وبلا أمان".
ورغم كل التهجير، تصر صفاء على البقاء، إذ نزحت إلى جنوب القطاع بخوف وارتباك، لكنها تقول إنها لا تستطيع ترك غزة.
"حتى لو بيتي ركام.. ما بسيبه، يموت الواحد في بيته أشرف له، يموت في غزة أحسن له."
ترى أن خسارة بيتها كانت فداء لتبقى في وطنها، ولتبقى مريم على أرضها.
صفاء.. واحدة من آلاف
قصة صفاء ليست استثناء، بل واحدة من آلاف القصص التي تعكس وجع الفلسطينيات بعد كل عدوان؛ بيوت تهدم، سنوات من التعب تضيع، أطفال يفقدون مدارسهم وطفولتهم، وأمهات يولد في داخلهن هم جديد كل يوم.
لكن مثل صفاء.. يبقى الفلسطينيون واقفين، رغم الركام، يحبون الحياة كما لو أن غدا أجمل قادم، ولو كان مجرد خيمة فيها "سرير صغير لمريم".
اقرأ المزيد.. الشتاء يفاقم معاناة النازحين داخل الخيام ومعاناة إنسانية تتفاقم