قانوني، كاتب
طبّال الحي قصة قصيرة لـ محمد العودات
يركب الطبّال على حمارة، يعتلي ظهرها بالمقلوب ظهره لرأسها ووجهه لذيلها، حمارة خضراء شيباء كهلة بالكاد تجر نفسها، حوافرها طويلة تمتد أمامها بمقدار شبر اليد، جسدها سمين لا تحملها أقدامها، ما أن تمشي بضع خطوات قصيرة حتى تبدأ تزفر الأنفاس المتعبة، لا تسرع في مشيتها ولو ألهبها الطبّال بسوطه وكأنها قد سلت الحياة من جسدها.
الطبّال..
يلبس الطبّال على مدار فصول السنة ذلك الثوب الشتوي الرصاصي الخشن يكسو به هذا الجسد النحيل المنحني وكأنه سعفة نخل قديم قد نهشتها أشعة الشمس، وسرواله القطني الأبيض المصبوغ باللون الأحمر من الأوساخ، على رأسه حطة مصبوغة بالسواد وشعره المنفوش يتفلت من مقدمة عقال رأسه، وجهه نحيل أسود محروق يخرج علبته من جيبه، ثوبه يبلل الورقة بلسانه ثم يحشوها بورق الدخان المطحون ويشعل سيجارته بين أصابعه الصفراء التي صبغها لون الدخان، سيجارة لا ينطفئ لها زهرة ولا يخمد لها دخان، لا يكاد يستحم إلا في الأعياد، جلده متقشب خشن، كفات يديه شعثاء إذا صافحته يدمي راحتيك.
يمسك طبله وبيده عصاة مكسوة بالجلد ينقر بها عله ينشد ضالة (أبو محمد)، ينادي وهو يركب حمارته بالمقلوب ويصيح "يا من رأى، يا من سمع، وبحق ولاية الخضر وآل بيت النبي، أولهم علي وثانيهم فاطمة بنت النبي، وبحق الصلاة على رسول الله، صلاة لمن أنكرها تقطع الحي من الحي، وتيبس عرق كل حي، يــــا من شاهد وأخفى، يـــا من سمع وكتم، تصيبه في كل عزيز تصيبه في الولد الصالح والمال السارح، تأتيه المصائب حتى تذريه وما أن طاف في الزقاق والحواري وأكمل المناشدة "الصيحة" حتى وضع بيده (أبو محمد) ربع درهم أجرة على عمله وانصرف وهو يتمتم بالحمد.
(أبو محمد) يفقد سخلته، تلك السخلة التي كانت ترعى في المرج المبسوط مثل كف اليد مطرز بالربيع، وكأنه بساط منقوش بأجمل الألوان مزين بأزهار السوسنة والأقحوان والدحنون، سخلة كان يمني نفسه أن يذبحها على عيد الأضحى، لكن يد الطمع واللصوصية امتدت إليها بطرفة عين وأخفتها.
الأرملة (حمدة ) سمعت الطبّال ينادي وقد شاهدت جارها ذلك الرجل المعروف بخفة يده وبموت ضميره، شاهدته وهو يدخل السخلة على الخان المعتم، لا تستطيع أن تكتم المناشدة التي صاح بها الطبّال لكنها تخشى من جارها الفاجر اللص، همت بالخروج إلى الطبّال ومن يرافقه لكنها تراجعت تحت سطوة الخوف وما يمكن أن يفعله جارها الفاجر، عاشت ليلتها في صراع طويل؛ فمناشدة الطبال ثقيلة على الضمير، في المساء كانت ترقب من كوة بيتها حركة في بيت الجيران، رأت ولده وهو يدفن الجلد في حوش البيت، رائحة اللحم المطبوخة "القورما" تملئ جنبات بيتها تتخيل ما يدور في بيت جارها وتقول لا بد أنه الآن قد ذبح السخلة وسلخها وقطعها ثم صنع منها القورما وحفظها بدهنها وزيتها في جرار الفخار وطين بابها حتى لا تفسد، بقيت الأرملة حمدة في صراع مع الضمير لعدة أسابيع كلما سخن لها جبين ولد، تقلب عليها ضميرها بأن أصابتها مناشدة "صيحة" الطبّال إذا تعثرت في بيتها تقول إنها من صيحة الطبّال التي كتمتها، الكلام محبوس في داخلها بحاجز الخوف ويكاد يخنقها، ضميرها لوّام يتقلب عليها في كل حين تقول ليتها عميت في ذلك اليوم ولم تشاهد جارها أو صمت آذانها ولم تسمع الطبّال ينشد السخلة، بقيت على هذه الحالة في صراع مع ضميرها حتى كسرت يد ولدها الصغير فأدركت أن إخفاء الصيحة قد يصيبها بأم الشرور، أمسكت قلم من الرصاص وبالكاد تعرف الكتابة وخطت تخبر من سرق السخال وأين دفنت الجلود، والقته تحت ستر العتمات في باحة بيت (أبو محمد) لتستيقظ في الصباح على دورية من فرسان الدرك على خيولهم ينبشون الجلد من باحة بيت جارها اللص ويكبلوه يجروه خلفهم إلى السجن، وحمدة تهمس في نفسها السجن له ولا الهلاك لي ولذريتي إنها مناشدة الطبّال وكتمان الصحية التي لا أقوى عليها.
في فصل الربيع
دخل الشهر الفضيل في فصل الربيع ذاك العام، ينام أهل الحي ويستيقظون باكرا، حتى أنك تشعر أحدهم يذهب ليوقظ الشمس من مخدعها من فرط نشاطه، هذا موسم الطبّال وشهر البركة والعطاء وما أن ينتصف الليل حتى يبدأ يتجول في بين الزقاق ينقر على طبله بصوته العالي وينادي بالناس للسحور قبل أن يحل وقت الفجر، ويحكم الصيام عليهم قبضة المنع والحرمان، إذا ما اشتم رائحة خبز في ذلك وقت يطرق الباب وينادي على صاحبة البيت أن تناوله رغيفا ساخنا من فرنها يتسحر عليه يعرف كل أسرار القرية وحتى موائدهم في رمضان.
بعد العصر يجلس الطبّال يسند ظهره على الجانب الغربي للمسجد الذي لا يدخله إلا نادرا يستمتع بشمسة نهاية آذار الدافئة يتقلب بها حتى يمضي الوقت إلى ساعة الغروب ليذهب إلى بيته لتناول الإفطار، يتحلق حوله الفتية يقضون أوقات الصيام حتى يحين الغروب، يستمتعون بقصص الطبّال التي تكاد تلامس غمام الخيال، يحدثهم عن مغامراته مع الأفاعي والعقارب والضباع، يقص لهم كيف تراهن مع الناجي أن يذهب إلى مغارة الشيح ويخرج الضبع من وكره في بطن الوادي، وكيف تجرد من ملابسه على باب المغارة كيوم ولدته أمه، يسرد للفتية عن صفة الضبع الحيي الذي أصابه الذعر والخوف والخجل عندما رأى عورة الطبّال فانقاد له باستسلام دون أدنى مقاومة يقوده من أذنه وهو يركب على ظهره حتى أدخله المضافة، الفتية مشدوهين من قصص الطبّال وسعة خياله معظمهم يعلم أنها من شطحات الطبّال، قاطعه أحد الشباب وسأله إذا ما بقي عاريا ودخل المضافة وهو يقود الضبع أم لبس قبل الوصول، نظر الفتية في وجوه بعضهم البعض في بسمة مكتومة، لكن الطبّال التفت عنه سريعا وانتقل إلى قصة الأفعى ذات الرأس المفلطح، بذات يوم بعد أن تشاجر مع زوجته يمم إلى المغارة في سفح الجبل وما أن دخل المغارة ووضع زوادته وتمدد يرتاح من صراخ زوجته الذي نقر في رأسه حتى رأى الأفعى تلتصق في سقف المغارة كأنها عجلة سوداء وتنظر إليه من أعلى بنصف عين تجاهلها حتى أشعرها بالأمان ثم وثب عليها وأمسكها من ذيلها وبقي يصارعها حتى أنهكها وأخذ يلوح بها ويضرب رأسها في جنبات المغارة حتى ماتت وهو يردد للفتية الأفعى لا تموت إلا من رأسها، فحمل نفسه من المغارة خشية أن يكون لها من يريد الانتقام، أعاد الشاب اليافع السؤال على الطبّال، وهل الأفاعي تنتقم لبعضها البعض، تجاهل الطبّال ثرثرة الفتى الغر ثم مضى يسرد كيف غادر المغارة وانحدر إلى السهل المحاذي يجلس تحت شجرة التين وإذ به يرى العقارب تغطي وجه المكان كل عقرب بحجم حافر الخيل بقي يقتلها الواحدة تلو الأخرى حتى جمعها كومة، الفتى يتعامل مع قصص الطبّال على أنها جد الكلام يستفسر ويستغرب، لكن كل من يتحلق حول الطبّال من الشباب يعلمون أنه صاحب خيال واسع يسرح به إلى أبعد من ذلك بكثير فالرجل يعيش بعد موت زوجته في خلوة والخلوات أم الأفكار والرحم الولود للقصص والحكايا، الرجل يسرد القصة وبعد يوم يسأل عنها فيسردها بطريقة أخرى فهو يكذب أكثر مما يتنفس.
قصص مسلية
القصص مسلية طلب منه أحد الشباب أن يكمل مغامرته في ذلك اليوم المليء بالأحداث أستجمع الطبّال خيال أفكاره وهز رأسه بهدوء واستكمل يسرد وما أن حل المساء حتى وجد ضبعة كاسرة خلفها جراء صغار طارد الضبعة حتى أبعدها وأمسك بالجراء حتى مطلع الشمس يلاعبهم ويتسلى بهم ثم أطلق سراحهم نهض الفتية وهم يتغامزون بالطبّال ويطلبون منه أن يأتي في الغد ليحدثهم عن قصصه ومغامراته.
غمغمت الشمس فعاد الطبال إلى غرفته يتنظر صوت الشيخ يعتلي المئذنة، فيؤذن المغرب ويعلن وقت الإفطار، بيت متهالك متساقط الجوانب مبني من الحجر الأحمر كوة ضيقة لا يكاد يدخل منها الضوء بها عش حمام ارضيتها من التراب، طعامه متنوع من كل بيوت الحي،فيه كل الأصناف ما لذ وطاب وبعد أن يأكل من بعضها ما يشتهي يضع الباقي على الصخرة أمام بيته في الخارج تقتات عليه الطيور والقطط والكلاب ثم يعيد الاطباق إلى أهلها بلا غسيل، وما أن يحل العيد حتى يقود حمارته ويتجول في أحياء الحي يأخذ أجرة المسحراتي، فيتزود من الطحين والقمح لعامه المقبل.
رغم بؤس الطبّال وقلة حيلته وهوانه على الناس إلا أن لصوص القرية يعتبرونه عين الحي وأذنه، فهو خصمهم الأول والكابس على أنفاسهم، بطبله وحمارته العجوز وصيحته يفتح العيون عليهم وهو الذي ينبه الأذان لتسترق السمع عنهم يدفع الناس لتشي بهم بعد أن يهز الضمائر بكلماته إنه الرقيب الأول عليهم، تهامس اللصوص وقلبوا أفكارهم الخبيثة فما وجدوا من بد إلا سرقة حمارة الطبّال وطبلته، وعند أول سرقة حمل الطبال على خيل صاحب الضالة وأعطي دلوا من حديد يقرع عليه بخشبته وأخذ ينادي ويصيح ويطلق مناشدته بألفاظها التي تزرع الرعب والخوف في قلب كل من يسمعها، سويعات حتى ظهرت الأمور وتكشف السارق، أدرك اللصوص أنه لن يخلو لهم وجه الحي إلا إذا كتموا أنفاس الطبّال وأرسلوه إلى عالم البرزخ الأبدي ليرتاح ويرتاح منه، أيام طويلة افتقده جيرانه عندما فتحوا عليه الغرفة وجدوه منتفخ متلون الجلد وقد سال الماء والدهن والدم من عيونه وفمه وتشقق جلده تغطيه اليرقات تفوح منه رائحة الموت التي تزكم الأنوف لا يقوى أحد على الوقوف بجانبه، ترفع أهل القرية عن غسله وحمله ولم يشارك في جنازته إلا درويش القرية (أبو جعفر) ورفاقه وصلي عليه في المقبرة ولم يدخل به إلى المسجد.
أسابيع على غياب الطبّال تحت الثرى حتى بدأ اللصوص يسرقون بعض البيوت، تذكر الأهالي الطبّال لكن ليس هناك من يقوم مقامه حاول أحد رجال القرية أن يردد ما كان يردده الطبّال ويصيح، لكن كلماته كانت باردة لم تقع في نفوس أهل القرية موقع الخوف والرهبة والخشية التي كانت لكلمات الطبّال، لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أي من هؤلاء اللصوص الذين نخروا جسد القرية كما ينخر السوس الخشب، حاول أهل القرية مع الدرويش (أبو جعفر )، أن يصيح كما كان الطبّال يصيح لكن (أبو جعفر) كان يرد عليهم باستعلاء "لا أحد يسد في جورة أحد، ولا أحد يقوم مقام أحد "ثم يردف قائلا "اندفع السيل الذي كانت تمنعه حصاة" ثم يقهقه الضحكات الساخرة ويمضي.