قانوني، كاتب
سيدة الحاووز قصة قصيرة لمحمد العودات
فاضلة تلك العجوز بقوامها المنحني ممتلئة الوجه سعفاء الخدين تكسوها حمرة خفيفة طويلة الرمش حتى يكاد يلامس حاجبيها وكأنها مكحلة العينين، عالية الصدر مندلقة البطن متدلية الخواصر في فمها ثنية صفراء مذهبة يعتلي أنفها شناف ذهبي لامع ،غائرة معالم الأنوثة قد نهش ناب الدهر من جمالها حتى أخفى تلك الأنوثة التي يكسوها غبار الزمان وتقلبات طول السنين، تمشي الهوينا، تلف رأسها بحطة بيضاء، لسانها يسبق عقلها، وهمتها تدفع ضعفها قلبها مقبل على الحياة، ومعالم جسدها سائرة على طريق الفناء.
تجلس العجوز( فاضلة) على شفير ذلك الوادي السحيق الحاد، يغشاه الضباب في القاع، هذا الوادي المخضر، الذي يغص بشجر الحور والكينا المتشابك وعروق الدّفلى ونبات الشومر الذي يتكاثر حول برج المطحنة القديمة المهجورة.. مطحنة تحكي قصص الإنسان القديم الذي استعمر هذا الوادي قبل مئات السنين ، حضارات قامت واندثرت ببطن هذا الوادي وترك أهلها بقايا من أثرهم ، أسراب من طيور الحسون تغطي عين الشمس وهي تحوم فوق السيل المترع بالماء، تهوي إلى مجرى السيل تشرب منه تستعمر هذا الوادي الذي أصبح يطلق عليه وادي الحسون ، تجلس العجوز فاضلة في مساء كل يوم تستمتع بجمال الطبيعة الخلاب، قوتها أصبحت تخونها في الوصول إلى قعر ذلك الوادي.. تتذكر صباها كيف كانت تنزل إليه عبر ذلك الطريق الضيق الذي خطته أقدام المزارعين، تتذكر أيام الربيع وحنينها إليها، وهي تجمع الزعتر واللوف والجعدة و"الجلتون".
الحاجة فاضلة ترى الجنود الإنجليز بلباسهم العسكري وجزماتهم التي تصل إلى أفخاذهم ووجوههم الشقراء وعيونهم الزرقاء وقوامهم الممشوق يتجندون بنادقهم تطالعهم وقد ضربوا بيوتهم التي يجرونها على العربات على أطراف القرية وبعيدا عن السكان، نزلوا كأسراب من النمل إلى العين غرب البلدة، هذه العين التي تشق الصخر تتفجر منه وكأنك ترى الينبوع يضحك وهو يصب خيره المزن الزلال في ذلك الوادي؛ ليهبه الحياة وترياق الوجود على الدوام.
تراقب العجوز فاضلة، الجنود الإنجليز وقد نصبوا خيامهم حول عين الماء، يحملون بأيديهم بعض المناظير والأجهزة التي لم ترها من قبل، أيام حتى بدأت الحفريات في المنطقة، وبعد شهور كان يرتفع بناء من الحجر الأحمر الجميل في بطن الوادي ، بناء كأنه قصور السلاطين، متماسك منظم جميل في أقواسه وبواباته، وما أن انقضى فصل الصيف حتى بدأت ماء العين تسكب في تلك الآبار العميقة المظلمة، التي تم تشييدها من قبل الجنود الإنجليز، مضخات عملاقة لها هدير صاخب، تعبئ الماء من بطون الآبار وترفعه إلى الحاووز، ذلك المخزن الدائري الأملس العملاق الذي تم تشييده على تلة القرية، تنظر إليه العجوز فاضلة بانبهار، أنابيب ضخمة واسعة القطر يكاد يحبو بها الطفل الرضيع من سعتها تصب الماء في ذلك الحاووز، الذي يربض كالقلاع المحصنة على تلة القرية ، ليسقي أهل القرية .
بدأت النسوة تهجر مجرى العين بعد أن كانت ترده كل يومٍ وتتقاطر إلى الحاووز الجديد، هناك عند مجرى العين كانت الصبايا الملاح بعمر الورد المتفتح تذهب لتتزود بالماء تضع البراميل البلاستيكية على الحمير وتيمم بها إلى الوادي السحيق، تغرف من العين فتملأ تلك البراميل في رحلة عناء طويلة وشاقة.. في فصل الربيع كانت النسوة بعد جز صوف الأغنام تذهب إلى مجرى العين فيغسلن الصوف وينشرنه على تلك الأحجار البازلتية السوداء التي تحيط بمجرى العين إحاطة السوار بمعصم اليد.
بعد عدة أيام امتلأ بطن الحاووز بالماء كان الجنود الإنجليز يقفون كل صباح يملؤون تنكهم الكبير بالماء تجره عربة عسكرية ثم يغادرون إلى معسكراتهم أطراف القرية، بعدها تصطف نسوة القرية لتملأ كل واحدة منهن بعض البراميل، الطابور طويل تمسك كل امرأة برسن حمارها وهي تضع فوقه البراميل لتأخذ حاجياتها من الماء وتعود لبيتها.
في المساء يهرع الرعاة وقد وضعوا مشارب أغناهم حول الحاووز يسقون مواشيهم ودوابهم ومن ثم ينام أهل القرية آمنين في سربهم عندهم سقيا يومهم، وقد حيزت لهم سبل الحياة الهانئة، العجوز فاضلة لم تستسغ وجود مشارب الدواب الحديدية الصّدئة حول الحاووز الجميل، عمدت إلى قدومها وبدأت تنحت في تلك الصخرة التي تبعد عدة أمتارعن الحاووز ، أشهر حتى كانت قد صنعت من تلك الصخرة جابية كبيرة منحوتة من الصخر تملؤها فاضلة بالماء عبر خرطوم من اللدائن كان قد أعطاها إياها أحد الجنود الانجليز، تشرب الأغنام من الجابية بعيدا عن سقيا الناس.
أصبحت العجوز فاضلة جزءا من الحاووز حتى تعود على وجودها الجنود الإنجليز وباتوا يتعاملون معها كأنها سيدة الحاووز ومالكته، وكلما نشب خلاف بين صبيتين على الدور تدخلت العجوز( فاضلة )، وفضت النزاع، تنظم الدور، تقسو أحيانا على الصبايا والنسوة في الكلام، إذا ما تلف صنبور تتواصل مع مختار القرية وتبدل صنبور الماء ، أصبحت تعرف متى يمتلئ الحاووز ومتى تنفد مياهه، تذهب إليه منذ الصباح ولا تعود إلا بعد مغيب الشمس تتسلى مع نسوة القرية، الكل يشعر أنها سادنة الحاووز وحافظة خيره ومالكة سره، فهي التي تتدبر أمره، فلا شيء يخصه إلا بقرار منها فهي التي تملأ الجابية نهاية كل مساء لحلال أهل القرية، وهي التي تنظف ما حوله وتزيل عنه الأعشاب التي تنمو وهي التي تنظّم الدور وهي التي تحدد مقدار كل واحدة من السنوة وحاجتها من الماء، بقدر ما لديها من عيال ، وتعين البنات الصغار التي تأتي لملء براميل البلاستيك وأجسادهن لا تقوى على حمل تلك البراميل، تطرد أيّا من الشباب والرجال إذا ما اقترب أحدهم من الحاووز، فهو مورد النساء حتى تصفر عين الشمس، وبعد العصر يرد الرجال والرعاة ، لا أحد يخشى على ابنته وأمنها بالذهاب إلى الحاووز ما دامت الحاجة فاضلة تدبر شؤونه.
مع الأيام بدأت نسوة القرية يشعرن أن العجوز فاضلة ضرورة من ضرورات القرية ولا يمكن أن يبقى الحاووز يعمل ويقدم لهن الماء وسبل الراحة، إلا بوجود هذه العجوز وحسن إدارتها، اجتمع أهل القرية وكبارها في مضافة المختار وفرضوا للعجوز فاضلة مبلغا من العطاء يدفع عند موسم الحصاد كما يدفعون لإمام المسجد وخطيب القرية ومسحر رمضان.
المجالس مدارس فالعجوز فاضلة خبرت الحياة وطحنت دقيقها وخبزت رغيف الحكمة على صاج جمر الزمن موسوعة في الأمثال وسباكة اللفظ والحكم وإعادة توزيعها، تحاكي الصبايا ترشدهن الحياة تحذرهن من أخطاء العمر وخطاياها فهناك من الأخطاء ما يمر مر السحاب وهناك من الأخطاء كالوشم لا تزول ندوبها ما دام في الجسد نفس، إذا ما جاءت امرأة غاضبة تستعجل ملئ براميلها تريد أن تتخطى الرقاب تنهرها العجوز فاضلة وتطلب منها أن تلتزم بالدور أو تستأذن من الصبايا والنسوة وتهمس في أذنها، " ما تأخذيه بالكيف لا تطلبيه بالسيف" ، وعندما ترى امرأة من أهل القرية لا تغير عاداتها السيئة رغم الحديث معها تردد قولتها المشهورة ، " الطبع غلب التطبع " وإذا سمعت إحدى النسوة تبالغ في الحديث أو أنها تكذب في تباهي متصنع تقول " فلانه تعمل البحر طحينة "
العجوز فاضلة تعلم كل أسرار القرية تراقب الجميع، من تحمل وتلد من الصبايا ومن لها مشكلة مع عائلتها أو أهل زوجها، ومن لها نعمة أصابتها، تأخذ أخبار القرية وتنام عليها بكتمان حتى أنها أصبحت مستودع سر النسوة والصبايا، إذا ما أرادت امرأة أن تخطب لابنها عروساً تذهب إلى العجوز فاضلة تسألها عن الصبية وسلوكها وتعاملها ومن تليق بابنها ، إذا ما تعثرت حياة إحدى النسوة تشكو همها للعجوز فاضلة؛ فترشدها بما اكتسبته من حكمة الحياة، لم تعد فاضلة سيدة الحاووز فحسب، بل أصبحت سيدة القرية الأولى فهي الحضن الدافئ والصديقة مقربة من كل نسوة وصبايا القرية حافظة الأسرار ومرشدة الصبايا الصغار ودالة الخير والقريبة من الجميع .
لم يكن الزمان يحمل للعجوز فاضلة كثيراً من الخير، المجلس البلدي للقرية الذي اقامته الحكومة بدأ يقيم المشاريع التطويرية وهناك حديث يتهامس به الناس عن جر المياه عبر الأنابيب لباب كل بيت في القرية ، كانت العجوز فاضلة بداية الأمر لا تتخيل صحة ما يتناقله الناس كيف يمكن للمجلس البلدي أن يجر المياه إلى باب كل بيت، فهي مسألة لا يمكن أن تحصل كما كانت تعتقد، لكن بعد عدة شهور بدأت الحفريات في الزقاق والحواري والحديث عن وصول الماء إلى الجميع أصبح وشيكا، كانت فاضلة تفكر كيف يمكنها أن تقف في وجه هذا التحول اللعين، الذي حل بالقرية لا تتصور الحاووز بلا نسوة القرية ولا تتصور أنها قد أصبحت غير مهمة في حياة نسوة القرية ومعاش الناس، ذهبت تستجدي عند رئيس المجلس البلدي أن لا ينفذ مشروعه لكنه كان كالطاووس يتمايل مختالا فخورا بما يقوم به من خدمة لأهل القرية، لا يبالي هو ومجلسه بالعجوز فاضلة وحاووزها، فقد تجاوزهم الزمن وأصبح من الماضي بعد أن خدمهم لسنوات طوال .
أدركت العجوز فاضلة أن زمانها قد قلب لها ظهره المجن، وأن نجمها في القرية بدأ بالأفول وأنها أضعف من أن تقف في وجه المدنية التي أخذت تزحف على القرية وسكانها وتلتهم كل ما فيها، وما أن حل الخريف حتى بدأت الأرجل تخف عن الحاووز واكتفت النسوة بما يصل إلى بيوتهن من ماء عبر الصنابير التي تصب في خزانات البيوت من غير شقاء ولا تعب ، أسابيع حتى أصبح الحاووز مهجورا لا أحد يأتي إليه، بقيت العجوز فاضلة تذهب إلى الحاووز لتعتني وتهتم به كأنه بيتها، لكن لا رواد ولا قيمة له، داهمها الشتاء القارص فكفت العجوز رجلها عن الحاووز وبعد أن انجلى برد مربعانية الشتاء وأقبل وجه الربيع ذهبت فوجدت جدران الحاووز قد اعتلتها الطحالب وأصبح فارغا من الماء بعد أن تحولت عنه أنابيب المياه، الجابية مليئة بالأعشاب والأوساخ والقاذورات هزت العجوز فاضلة رأسها بحسرة لكنها لم تستلم، أيام حتى كانت قد اعادت الحاووز إلى بهائه وجماله ونظافته لكنها تفتح الصنابير، لا ماء يخرج من الحاووز، كل من يمر عليها يسخر من صنيعها وتشبثها بالحاووز ودوره ، استسلمت حينها العجوز وأيقنت أن الزمن قد طوى صفحة عزها وهيلمانها وأن عربة التاريخ لا تمشي للوراء وأنها وحاووزها أصبحا من ماضي الناس وذكرياتهم .
البيادر متخمة بأكياس الحبوب وكل مزارع يؤدي ما عليه من عطاء لشيخ القرية ومسحر رمضان، لكن لا أحد يطرق بيت العجوز فاضلة يؤدي لها العطاء السنوي، فلم تعد تقدم لأهل القرية شيئاً، استشاطت غضبا عندما طرق بابها أحد الصغار وبيده قصعة من حبوب زكاة مال البيدر، رفضته العجوز وعنفت الصغير وهي تردد فاضلة لا تأكل الزكاة ولا الصدقة ، بقيت فاضلة تزور الحاووز كل مساء تستعيد ذكرياتها وقوتها وزمنها الجميل في جنبات الحاووز حتى وجدها المختار ذات يوم تغفو على جنب الحاووز وقد سلمت روحها إلى بارئها معلنة رحيلها إلى دار الخلود، وقد بلغت وصيتها أن تدفن بجانب الحاووز تاركة خلفها حاووزها كالقلعة يصارع الإهمال وجحود الأيام ليكون شاهدا أن الزمان دول وأنه يتقلب في أحواله على الناس كما يتقلب الماء المغلي في القدر.