قانوني، كاتب
على موائد الأساطير
بقلم محمد العودات | المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
في تلك المقبرة الغربية المكتظة بتلك القبور التي تبتلعها الأعشاب والتربة الحمراء المنتفخة، يربض قبر الولي الصالح مثل القلعة في وسط المقبرة بحجارته الحمراء وشواهده العالية التي يعتليها السناج الأسود، حول القبر يتوافد أهل البلاء والحاجات، الصغير سلامة بعمر الورد بهيئته الرثة ووجه الأبيض وخدوده الخمرية المكسوة بشعث الحياة وعيونه الزرقاء المتقذية وقوامه النحيل يراقب تلك الوجوه القادمة يحملق بما يحملونه بأيديهم.
يبدو للصبي هذا يوم لا رزق فيه، لم يأت أحد بما يُذبح على قبر الشيخ الولي ويقدم قربانا، ملَّ سلامة همهمات تلك العجوز التي تجلس منذ ساعة وهي تناجي القبر وتلح في الطلب على الولي أن يفرج كربها ويرد لها ولدها الذي ذهب إلى الحرب وراء البحار وانقطعت أخباره، صوتها مخلوط بين الإلحاح في الطلب والبكاء فلم تعد تستطيع صبرا على بعد وفراق ولدها وفلذة كبدها وانقطاع أخباره.
سلامة محمل بالقصص والحكايا والمهابة والإجلال عن قبر الشيخ الولي وكراماته التي طالما حدثته بها جارته عريفة تلك المرأة الستينية قصيرة القامة ذات الخدود المتورمة والبطن المنتفخ الذي يفيض بشحمه على حزام وسطها، حبات عيونها البيضاء تكاد تخرج من محاجر رأسها، جلدها متجعد كأنه جلد سلحفاة هرمة، تضع في عنقها مسبحة خضراء طويلة، تحدث الصبي سلامة بهدوء ونبرة العارف المتبصر عن كرامات الشيخ الولي التي سمعتها عن أمها كيف أنه كان يمشي على الماء ولا تبتل له أخمص قدم وإذا مد سجادة الصلاة تنطلق كبساط الريح يتجول بها في أرجاء القرية والقرى المجاورة وعندما رأت الاستغراب باديا عليه أكدت له أنه بساط الولاية والورع والتقوى الذي يحمله لا تلك السجادة التي يراها الناس، تحدثه كيف كان يكتب بسبابته بدون قلم، كيف كان يقرأ على الزيت فيمسح به جسد الأبهق فيبرأ، إذا تفل في قدر من الماء تحول إلى اللبن، يمسح بطن العاقر فتحبل ببركته وولايته، يذهب له الناس يستبرؤوا بريقه من كل جرح أو جربة أو علة، لكن الصبي سلامة في نفسه غواش مما تقوله جارته.
ما أن تنشر الشمس خيوط الضياء حتى يذهب الصبي سلامة في كل صباح يجلس عند قبر الشيخ الولي يتلقط أرزاقه، جموع من الأطفال قادمون نحو المقبرة يحملون الرايات الخضراء وهم يغيثون ويستمطرون السماء ببركة قبر الولي فقد انحبس المطر وانقضت أربعينية الشماء بشمس ربيعية دافئة، لم يجد ضرع السماء بقطرة ماء تبلل وجه الأرض فتغسله من غبار القحط الكئيب، الأطفال يحلقون رؤوسهم يقلبون ثيابهم يمشون حافي الأقدام وخلفهم البنات الصغيرات يخرجن ضفائرهن الملبدة من تحت المناديل طافوا حول قبر الشيخ الولي وهم يرددون بصوت "يا صاحب الولاية والكرامة، يا صاحب القبر المبروك، بحق كل صباح و طير غرد صاح، وبحق كل من له حق وجاه أن تجلب لنا الغيوم وتسقي زرعنا المسقوم"، أمسكت امرأة من قصاد القبر بصدرها الضامر من خلف ثوبها الأسود المرقع ورفعته بكفيها وهي تردد بحق "الجمعة الجماعة والملائكة السمّاعة وبجاه الحلابات والليالي العشر الصالحات أن تقضي لنا كل حاجة وترفع عنا كل كرب"، طاف الأطفال حول القبر ثلاثا ثم خرجوا يدورون في جنبات القرية، الصغير سلامة التحق بالركب يبدو أن القحط كما أصاب ضرع السماء أصاب قبر الولي أيضا فلا أنصاب يُهل بها لهذا اليوم، أخذ يطوف مع الأطفال على بيوت القرية وهم ينادون كل ربة بيت باسمها، فتخرج عليهم تلقى قصعة من ماء على رايتهم الخضراء وهم يرددون يا الله.. يا الله بحق صاحب السر المكتوم والمقام المعلوم، وما أن انتهوا من طواف بين جنبات القرية وزقاقاها حتى عادوا إلى المقبرة ونصبوا الراية الخضراء على شاهد القبر الغربي عند رأس مرقد الولي وتركوها تخفق علها تستجلب لهم الغيوم الحبالى بالخير والمطر فتصب خيرها في ديارهم.
يسمع الصبي سلامة من بعيد حسفة نعال قادمة إليه صوت قرقرة لديك حبش محمولا بيد امرأة جاءت تذبحه على قبر الشيخ وتقدمه قربانا له، طير كبير ممتلئ يتدلى سنود منقاره بطول شبر اليد يرقب الصغير سلامة المرأة، وما أن أومأت إليه أن يقترب حتى أمسك السكين، لحظات حتى فصل رأس الطير عن جسده وتركه يخفق بجناحيه حتى لفظ أنفاس الحياة الأخيرة، رفعت المرأة الطير المذبوح على شاهد القبر وتوجهت للشيخ بالدعاء والطلب وتركت الطير المذبوح وذهبت وما أن غاب ظل المرأة عن المقبرة حتى حمل الصبي سلامة ديك الحبش وهرع به إلى أمه تطبخ لهم، ثم عاد مرة أخرى لعله يحظى بذبح آخر، فاذا أقبل وجه الحظ يبيض الحمام على الوتد.
هناك شيء يحيك في صدر الصبي من القبر وحقيقة ولاية الشيخ المبروك فهو لا يرى الشيخ يقدم لقصّاده أي شيء مما يطلبوه، لا زال يتذكر ذلك الرجل العجوز الذي كان يزل فكه على كتفه لا يقوى على الحركة عندما جاء به أولاده إلى قبر الشيخ ليتبرك به ويرفع عنه المرض والفاقة، وفي صباح اليوم التالي كان المريض يزف محمولا إلى عالم البرزخ ويودع دنيا الفناء، يرقب تلك المرأة في عقدها الثاني التي تيمم كل يوم نحو قبر الولي تطلب منه أن ترزق بالمولود وهي منذ وقت على هذه الحال وبطنها عاقر كصحراء مجدبة لا تنبت زرعا ولا تدر ضرعا، يشاهد تلك الصبية التي كان يسمعها تهمس في القبر تلح على الولي في كل صباح أن يرزقها زوجا لكنها حتى ذلك الوقت لا زالت تتقلب على نار جمر العزوبية، يهمس الصبي سلامة في نفسه الشيخ الولي أصم أبكم كما هي الحجارة التي تعتلي قبره.
جال في خاطر الصبي أن ينبش القبر ويرى ما فيه وكيف يرقد الولي في هذا القبر وكيف هو شكله كما أخبرته جارتهم عريفة بأن التراب محرم على أجسام الأولياء، لكنه يشعر بالتردد والمهابة والخوف، كما أنه لا يستطيع ذلك فقصاد عتبات الشيخ المبروك لا ينقطعون عنه وزياراته دائمة في معظم الأوقات، الفكرة تشتعل في رأس الصبي كجمرة تنبض في عناد تحت الرماد تلح عليه يريد أن يطفأ تلك الهواجس في دواخله بنور الحقيقة، تحيّن يوم الزينة وفي ظهيرة يوم عيد الأضحى والكل مشغولا بالذبح والنحر بدأ الصبي ينقب حجارة قبر الشيخ الولي بهدوء ودخل يحفر به حتى وصل إلى قاع أعظم الولي فلم يجد إلا بعض العظام النخرة وما أن مد يده عليها إلا وتفتت كأنها رماد سيجارة، نهض من القبر وأخذ يردمه وقد بصر حقيقة الأمر وزيف القصص والحكايا والخرافات التي تشاع عن الولي.
وما أن ردم القبر وخرج حتى وجد امرأة تقف على رأس القبر ولما رأته أخذت تصرخ وتصيح وتولول تحذر من غضب الولي على القرية، هرع الناس وكانوا في صدمة مما رأوه من عبث في حجارة القبر ونقبه والدخول إليه، لحقوا الطفل سلامة وأوسعوه ضربا وشتما وأدخلوه إلى مضافة المختار تكاد معالم وجهه أن تختفي، الدم ينزف من فمه وأنفه وجهه مزرق وأسنانه مكسورة، ملابسه مزقت عليه، ركله المختار بقدمه وطلب من الناس أن تلقيه خارج القرية حتى لا يحل بهم غضب الولي، جاء شيخ القرية فقرع الصبي وأخذ يدعو عليه بأن يحل عليه الغضب من الله وروح الولي، وطلب من أهل القرية أن يذهبوا فيعيدوا تشييد القبر إلى أفضل حال ويقدموا له الذبائح والعطايا والقرابين ليعتذروا منه عما صنع هذا الصبي الجاهل.
بضع ساعات كانت عائلة الصبي سلامة تجمع أمتعتها البسيطة وتشدها على ظهر البغلة وقد أخرجهم أهل القرية منها، الصبي سلامة يمشي خلف أمه بالكاد يجر نفسه من التعب والضرب وأمه تعود إليه كل وقت تصفعه على وجهه وهي تبكي وتشدد عليه في الملامة وهي تردد هذا ما جنيناه من طيشك وسوء تصرفك.
الأم تعلم منذ سنوات طويلة ما عرفه الصبي بنزوله إلى القبر، لكنها كانت تدرك أن المساس بجهل الناس المقدس أصعب على نفوسهم من المساس بأموالهم ودمائهم وأعراضهم، كانت تعلم أن الشيخ المبروك لا يقدم لهم شيئا فقد جربته وجلست على عتباته مئات المرات تطلب الرزق بعد أن ترملت لكن حالهم كان من سيء إلى أسوأ، وأنها كانت تتقصد تعظيم ما كانت تقوله عريفة عن بركات الولي وقبره في نفوس الناس حتى يبقى القبر باب للرزق لهم يقتاتون عليه، ناصحة الصبي عندما يقدس الجهل حاول أن تستفيد منه وإن أبت عليك نفسك تجنبه ولا تحاول كسره فلا يكاسر أحد الجهل المقدس إلا غلبه.
تطوف أم سلامة وصغارها على القرى المجاورة تبحث من قرية إلى أخرى عن قبر لولي أو صالح تحط رحالها بجواره، أيام حتى نزل بها المقام في قرية لها قبر كأنه محجا في زينته وأنواره وقُصاده فقالت لسلامة هنا نعيش ونسترزق ونتبارك حتى تكبروا ويذهب همكم، لبس الصبي سلامة طاقية خضراء وأخذ يخدم في جنبات القبر ويراقب إخوانه وهم يكبرون أمامه على موائد القبر ويقول في نفسه كم هم الذين يعيشون ويرتزقون على موائد الأساطير المقدسة كما نعيش ونسترزق.