احتجاجات كازاخستان.. ماذا تخفي وراءها
أثبتت الأزمة التي حدثت في كازاخستان، أنه رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود من استقلالها عن الاتحاد السوفياتي سابقا، فما زالت ميول موسكو لم تنقطع نحو هذه الجمهورية لتكون تحت سيطرتها، بعد أن ساعدتها بإعادة الهدوء إلى مناطقها في الأحداث الأخيرة.
لم تتأخر موسكو في تلبية طلب رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، بإرسال قوات من منظمة الأمن الجماعي (CSTO)، وهي الكتلة الأمنية الإقليمية التي تهيمن عليها روسيا، للمساعدة في قمع المتظاهرين والسيطرة على الاضطرابات التي اعتبرت الأسوأ التي شهدتها البلاد منذ 30 عاما منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي.
الهدوء في كازاخستان انتصار لموسكو
اعتبر مراقبون أن نشر قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي بمثابة انتصار لموسكو، التي سارعت بإرسال هذه القوات بسرعة البرق، كي تمنع أي تدخلات أميركية في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي بحيث لا تتكرر تجربة أوكرانيا التي تحظى بمساعدة أمريكية، لذلك قطعت هذه المساعدة الطريق أمام الأمريكان كي لا يضعوا أقدامهم في هذه المنطقة الثرية بالغاز والبترول، ويعتقد المراقبون أن ثمن هذه المساعدة، ستكون نتائجها قريبا بالتأثير على نهج الحكومة الكازاخستانية تجاه مختلف القضايا.
تصريحات عديدة خرجت من قادة ومسؤولين عن الأحداث التي حصلت، فقد وصفها رئيس كازاخستان قاسم توكاييف، بأنها محاولة انقلاب، وذكر أن العملية تم تنسيقها من قبل "مركز واحد"، لكنه لم يعلن عنه، فيما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن كازاخستان استهدفت من قبل الإرهاب الدولي، لكنه لم يقدم أي دليل على هذا الادعاء، فيما تحدث محللون عن الأوضاع بأنها صراع على السلطة بين النخب السياسية العليا، لكن أحد الناشطين البارزين في مجال حقوق الإنسان ويدعى إيفجيني زوفتيس قال إن المتظاهرين هم الأشخاص الذين اعتادوا على الاحتجاج وهم شباب من الضواحي يعانون، مثل الفقراء غير الراضين عن الفجوة الاجتماعية الكبيرة الموجودة في كازاخستان.
بداية الاحتجاجات
بداية الأحداث التي فجرها مواطنون بسبب ارتفاع أسعار الوقود، اندلعت بشكل عفوي مع احتفالات رأس السنة الجديدة من مجموعة صغيرة في مدينة زانازين (Zhanaozen) التي تقع على بعد أكثر من ألف ميل جنوب غرب العاصمة نور سلطان، أشعلتها قرارات حكومية بمضاعفة سعر غاز البترول المسال، وسرعان ما امتدت في جميع أنحاء البلاد وبالذات في مدينة المآتا العاصمة القديمة لكازاخستان، حيث اقتحم متظاهرون المركز التجاري فيها وأضرموا النار في مكتب رئيس البلدية والمباني الحكومية الأخرى، واستولوا على مطار المدينة خلال الليل.
لم تفلح جهود الرئيس توكاييف لقمع المحتجين، الذين اتهمهم بتلقي تمويل من قوى خارجية، حيث أثارت الاتهامات الجماهير التي خرجت إلى الشوارع وتوسعت الاحتجاجات إلى استياء عام من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتصاعدت بشكل أوسع ولم تمنع الثلوج من خروج الحشود الضخمة في جميع أنحاء البلاد التي طالبت بتغيير اجتماعي وسياسي جراء ما يحصل في البلاد من فساد وغلاء أسعار وسيطرة عائلات سياسية على الاقتصاد والثروات واتساع الفجوة الاجتماعية بين الناس.
وخوفا من أن تفقد الدولة سيطرتها على البلاد لجأ الرئيس توكاييف إلى عدة إجراءات سريعة لتهدئة غضب المحتجين، فأصدر قرارا بإقالة الحكومة وألغى زيادة أسعار الوقود وأقال الرئيس السابق نور سلطان نزاربايف من منصبه كرئيس لمجلس الأمن القومي، ليتولى هو بنفسه مهام رئيس مجلس الأمن، كما أقال رئيس المخابرات كريم ماسيموف، وهو حليف مقرب من نزارباييف، الذي سئم الناس منه لاتساع ثروته، إلى جانب اتخاذ خطوات أخرى وأهمها الاستعانة بقوات خارجية، وكذلك ما وعد به الشعب بإجراء إصلاحات سياسية سيعلن عنها قريبا.
مقتل 225 شخصا جراء الاحتجاجات
بعد آخر إحصائية صدرت أمس السبت أدت الاحتجاجات إلى مقتل 225 شخصا من المتظاهرين وإصابة 1000 آخرين وما يقرب من 8000 معتقل، إضافة إلى أضرار مادية جسيمة في المباني الحكومية والمراكز التجارية وأعمال نهب عديدة.
تشويه سمعة المتظاهرين
حاول الرئيس تشويه سمعة المتظاهرين وإعطاءهم صورة الإرهابيين، متناسيا أن الاحتجاجات اندلعت بسبب ارتفاع أسعار الوقود، ولم يعترف أنها احتجاجات عفوية، وزعم أن الاحتجاجات استولى عليها الراديكاليون الدينيون، والعناصر الإجرامية، وقطاع الطرق، ومثيرو الشغب الصغار، واتهم أيضا جهات خارجية بالتدخل بكازاخستان، كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ساند الرئيس توكاييف، وصف ما حصل بانتفاضة إرهابية مدعومة من الخارج، وعندما أرسل قواته إلى كازاخستان أعلن النصر دفاعا عن كازاخستان، وهذه ليست من مهامه.
ولكن هذه المزاعم سواء من الرئيس الكازاخستاني أو من بوتين أو مسؤولي كازاخستان لم تقدم أي دليل ملموس على تورط جماعات دينية أو تورط أجنبي في الأحداث، وإنما هو خروج عفوي من المواطنين الذين وقفوا ضد سياسة توكاييف وفشله في محاربة الفقر وضمان التوزيع العادل للدخل.
ولكن روسيا وبطريقة غير مباشرة وجهت أصابع الاتهام نحو أميركا لمنعها من الدخول لأي جمهورية سابقة للاتحاد السوفياتي، وخاصة أن أميركا تريد بناء شراكات اقتصادية مع هذا البلد الثري بالمعادن والمواد الأولية المستخدمة في الصناعات، ولم ترغب بوجود قوات حفظ سلام من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وقد علق وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على ذلك متسائلا عن جدوى وجود هذه القوات.
وقال وزير الخارجية الأميركي، ينبغي أن تعالج الحكومة الكازاخستانية المشاكل الاقتصادية والسياسية، ساخرا من وجود القوات الروسية بقوله: "إن أحد الدروس المستفادة من التاريخ الحديث هو أنه بمجرد وصول الروس إلى بيتكم، يكون من الصعب جدا في بعض الأحيان إقناعهم بالمغادرة".
تنامي المشاعر القومية ضد روسيا
بعد مشاركة قوات الأمن الجماعي التي تقودها وتهيمن عليها القوات الروسية بمشاركة رمزية من بيلاروسيا وأرمينيا دوقرغيزستان وطاجيكستان، تنامت المشاعر القومية الكازاخستانية ضد هذا التدخل وظهرت بوضوح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بحسب مراقبين، الذين اعتبروا هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر، لأنها أدت إلى تدويل حركة احتجاج محلية من خلال إضافة شريك لا يمكن التنبؤ بحساباته وتطلعاته وغالبًا غير موثوق به "روسيا".
وفعلا أثار وصول القوات الروسية إلى كازاخستان مخاوف بعض الدوائر بشأن مستقبل سيادة كازاخستان، علاوة على ذلك، تزايدت المشاعر القومية الكازاخستانية ضد الروس، الذين كانوا يتدفقون إلى كازاخستان أيام الاتحاد السوفياتي إلى جانب الأوكرانيين حتى وصلت نسبة السكان الكازاخستانيين إلى نحو 40% حتى عام 1991، ولكنهم اليوم يمثلون حوالي 70% وهي الأغلبية المسلمة من السكان، وهذا التحول هو نتيجة الهجرة التدريجية لإعادة الكازاخ من الصين ومنغوليا ودول آسيا الوسطى الأخرى، حيث انخفض عدد الروس وانخفض عدد المتحدثين بالروسية بشكل مطرد، بينما رسخت اللغة الكازاخستانية نفسها بقوة باعتبارها اللغة الرسمية للحكومة ووسائل الإعلام.
بحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي حدث التغيير الديمغرافي للسكان في كازاخستان وهي السنوات الأولى من الاستقلال، حيث عادت أعداد كبيرة من الروس في كازاخستان إلى روسيا، إلى جانب عودة العرق الكازاخستاني إلى بلده لترتفع النسبة وتتجاوز نسبة السكان الروس الذين يمثلون خمس السكان، مع وجود مجموعات عرقية أخرى في كازاخستان مثل الأوزبك والأويغور والطاجيك، والأوكران والألمان والتتار.
ماذا بعد ذلك؟
لقد تحدث الرئيس توكاييف عن مبادرات لتضييق فجوة الثروة، ورفع الضرائب على قطاع التعدين، والقضاء على المخالفات في مشتريات الدولة، ولم يغفل تشديد القبضة الأمنية على كل من يخالف النظام مطلقا عملية لمكافحة الإرهاب في البلاد.
انسحبت قوات حفظ السلام الموحدة التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، بعد أن نجحت في فرض السلام في كازاخستان التي يبلغ سكانها 19 مليون نسمة، ولكن الاضطرابات خلفت وراءها جروحا لن تندمل بسهولة، فما زالت الدولة تحت التهديد، فالعلاقة بين الدولة والشعب تم كسرها، في دولة يتطلع فيها الشعب ليستفيد من ثرواته الهائلة وأهما البترول إذ لديها أحد أكبر حقول النفط في العالم، وهي تنتج 40% من إمدادات اليورانيوم العالمية، عدا عن المنتجات الزراعية والمواد الخام مثل النحاس والذهب، والمنتجات الكيماوية والسلع المصنعة منها.
يرى مراقبون أن طريق الاستقرار لن يكون بالوعود، وخاصة بعد أن تكسرت العلاقة بين الدولة والشعب، فالوضع ما يزال قابلا للاحتراق بدرجة كبيرة، فالشعب يريد إصلاحات حقيقية، فقد حان الوقت لمساعدة شعب كازاخستان ليستفيد من ثروات بلاده.