معركة الكرامة ...ظروف ما قبل الحرب

الصورة

بقلم د.محمد مقابلة

جاءت معركة الكرامة التي حدثت في 21 آذار من العام 1968، في ظل ظروف وأحوال مؤلمة نالت من كرامة العرب والعروبة. فبعد أن فقدت الجيوش العربية مجتمعة كرامتها وهيبتها وسمعتها العسكرية في حرب حزيران67 المزعومة بفقدانها ما يقارب( 6000كم²) في الضفة الغربية الواقعة تحت السيادة الأردنية، و(365كم²) في قطاع غزة الواقع تحت الإدارة المصرية و(61198كم²) في سيناء المصرية، و(1150كم²) في الجولان السورية، وبعد تشريد وتهجير ما يقارب (350) ألف فلسطيني من ديارهم وأرضهم حيث انتقل جلّهم إلى شرق الأردن وبذلك سقطت كل فلسطين من البحر إلى النهر بيد العدو الصهيوني الغاشم.

و كذلك جاءت معركة الكرامة الخالدة في ظل صدمة وخيبة وعار، أصابت العرب والعروبة التي كانت تنتظر منذ عام 1948 بفارغ الصبر وعظيم الأمل تحقيق وعود وعهود طالما أطلقها زعماء الأمة الذين كانوا يتلاعبون ويعبثون بمشاعر شعوبهم وعواطفهم مطلقين وعودا بالتحرير وإنهاء الوجود الإسرائيلي بمياه البحر وبطون الأسماك.

وبالمقابل أصاب العدو الإسرائيلي الغرور والزهو والعلو حتى أصبح في أذهان الناس أنه قوة لا تقهر.

الحالة الأردنية الرسمية والشعبية قبل معركة الكرامة.

بالإضافة إلى فقدان كامل أراضي الضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية؛ فقد الأردن ما يزيد عن 80% من قوته العسكرية، ولم يستوعب أفراد وأبناء القوات المسلحة ما حدث...! كيف فقد هذا الجيش مدينة القدس ونابلس والخليل وغيرها خلال ستة أيام؟ كيف لهذا الجيش الذي استطاع الحفاظ على القدس ومدن الضفة خلال حرب عام 1948 من الوقوع تحت الاحتلال الإسرائيلي أن يخسر الضفة في أيام معدودات؟ أين الزعماء ووعودهم التي كانوا يطلقونها ليل نهار بتحرير البلاد والعباد من نير الاحتلال؟ كيف فقد هذا الجيش الأرض والمقدسات دون اشتباك مباشر مع عدو جبان؟

 

وأما النظام الرسمي الذي كان يعرف خبايا وزوايا غابت عن الشعب والجيش فقد شعر أن ما حدث سيكون له تبعات خطيرة على مستقبل النظام وعلى شعبه وأرضه. وأنه دخل حربا لم يستعد لها الاستعداد الكافي وأنه دخلها كخيار أمثل فعدم دخول تلك الحرب إلى جانب الدول العربية سيضعه في موضع اتهام وتخوين وأنه لا يمكن أن تدور رحى الحرب على أرض فلسطين وهو يقف متفرجا لا يحرك ساكنا. ولكن النتائج المترتبة على ذلك القرار كانت وخيمة.

ورغم تلك العواقب والخسائر الوخيمة ما كان أمامه إلا الثبات والاستعداد من جديد.

فخاطب الملك حسين رحمه الله الأنظمة العربية وطلب اليها الإعداد والاستعداد لجولة أخرى قادمة لا محالة. و كذلك طلب من دول المواجهة (مصر وسوريا ولبنان) فتح الحدود أمام العمل الفدائي الصادق والراغب في التحرير لاستنزاف العدو و إرهاقه خلال فترة الاستعداد والاعداد وإعادة التنظيم للقوات المسلحة العربية.

وبذلك يكون الأردن أول دولة عربية دعت ودعمت العمل الفدائي الصادق وللأسف لم تستجب دول المواجهة من مصر وسوريا لتلك الدعوات ومنعت العمل الفدائي على أراضيها في حين دعمت وأيدت العمل الفدائي الفصائلي على الأراضي الأردنية واللبنانية. و قبل الأردن بذلك رغم خطورته العسكرية والأمنية والسياسية على الوطن.

وأطلق الحسين عبارته المشهورة (كلنا فدائيون لأجل فلسطين).

الموقف الشعبي قبل معركة الكرامة

وأما على المستوى الشعبي فحرب حزيران 67 هزّت ثقة الشعب بجيشه وقواته المسلحة و في نفس الوقت أيد الشعب الأردني العمل الفدائي من خلال أراضيه والتحق كثير من الأردنيين بتلك الفصائل الفدائية لأجل تحرير فلسطين. وتحمل الشعب الأردني الأصيل بأكمله عواقب ذلك القرار الذي ترتب عليه قصف جوي إسرائيلي شبه يومي للقرى والمدن الأردنية وارتكاب المجازر بحق أطفالهم ونسائهم، فقد قام العدو الإسرائيلي المجرم بارتكاب مجازر دموية من خلال عدوان جوي على الشونة الجنوبية وغرندل في وادي عربة وعلى أم قيس وكفر أسد وملكا والخراج والهاشمية وغور الصافي وعجلون، وكانت تلك الهجمات الجوية تقتل عائلات كاملة من أطفال و آباء و أمهات، ولكن هذا كله لم ينل من إرادة و مقاومة الشعب الأردني ولم يجعل الشعب يطلب يوما إيقاف العمل الفدائي أو اخراج الفدائيين خارج الحدود بل احتضنهم السكان وزودوهم بالطعام والشراب والسلاح رغم القلة والفاقة التي بهم.

حقيقة موقف الجيش العربي الأردني من العمل الفدائي داخل الأردن.

أكثر الناس تخوفا وتشددا تجاه بروز أي قوة مسلحة أو عسكرية خارج إطار القوات المسلحة هم العسكريون لما يعلمون من خطورة تلك القوات على الأمن والسلم الوطني الذي قد يؤدي إلى بروز مليشيات لا يضبطها ضابط ولا يربطها انتماء وقد تستثمر قوتها المسلحة في فرض أجندات تتبع المصالح والمكاسب والأطماع الفردية والفصائلية على حساب الوطن، و رغم ذلك كله فقد دعم وأيد الجيش العربي الأردني تلك القوات الفدائية و سمح لها بإنشاء نقاط ارتكاز ثابته وقواعد عسكرية ثابته ومواقع تجنيد وتدريب متعددة وعلى طول الواجهة القتالية من أقصى الغور الأردني شمالا إلى أقصاه جنوبا واليكم بعضا مما قدمه للفدائيين:

  1. دعم الفدائيين بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة رغم أن الجيش نفسه يعاني من نقص و عدم تزويد بعد حرب 67.
  2. تزويد الفدائيين بكافة المعلومات الاستخبارية المتعلقة بنشاط العدو وتحركاته.
  3. اعتبار الفدائيين من القوات المصرح لها بالحركة والتنقل ضمن مناطق المسؤولية العسكرية لدرجة تزويدهم يوميا بما يعرف لدينا ( بسر الليل) وهو من الأمور الحساسة والخطيرة جدا.
  4. توفير الغطاء الناري والمدفعي اللازم أثناء انسحاب الفدائيين المشاركين بعمليات قتالية داخل أراضي الضفة وتحمل ردة فعل العدو بالقصف المعاكس لمواقع إطلاق النار.
  5. فتح جبهات متعددة بعد التنسيق من قبل القوات العسكرية الأردنية لتخفيف الضغط على مواقع الفدائيين( تبادل أدوار قتالية)
  6. تأمين الإسعاف والإخلاء الطبي لكافة المصابين من الفدائيين بالآليات العسكرية الأردنية دون أي حساب لردة فعل العدو.
  7. فتح نقاط تنسيق وتعيين ضباط ارتباط بين الجيش والفدائيين.

 

موقف الملك حسين من العمل الفدائي داخل الأردن

كانت القوى العظمى المتمثلة في أمريكيا وبريطانيا تمارس ضغطا كبيرا على الملك حسين لإجباره على طرد الفدائيين من الأردن ومنع أية عملية فدائية تجاه الكيان الإسرائيلي. وكان يعلم رحمه الله تعالى، مواقف تلك الدول الداعمة للكيان المحتل و مدى تأثيرهم على القرار الغربي تجاه الأردن، وهنا لا بد من أن نكون منصفين و مدركين أن الأردن حينها لم يكن ليتحمل كل تلك الضغوط السياسية والاقتصادية التي قد تنهي النظام وتحاصر الشعب إلا أن الحسين، اتبع سياسة ذكية يناور من خلالها بين واجبه القومي ومعرفته لموقف شعبه وعقيدة جيشه وبين تفادي الضغوطات الغربية فكان يلاعبهم على سياسة تقاسم الأدوار فيما بينه و بين الحكومة والقوات المسلحة.

فالحكومة برئاسة بهجت التلهوني تؤيد التواجد الفدائي وتطالب الدول العربية بتقديم الدعم من أجل الصمود. والقوات المسلحة تتيح للفدائيين حرية الحركة دون انتظار أوامر من القيادة الأعلى بينما هو رحمه الله كقائد أعلى للقوات المسلحة وكملك للبلاد كان يخاطب دول العالم المؤثرة بضرورة حل الصراع مع العدو الإسرائيلي بالعودة إلى حدود 4 حزيران67 ليتمكن من السيطرة على الحدود وإيقاف العمل الفدائي المدعوم حكوميا و شعبيا. ويؤكد هذا التحليل الخاص بي ما ذكره السفير البريطاني في تل أبيب هادو بيتن عام68 في أحد تقاريره إلى قيادته السياسية في لندن حيث يقول: ( لقد أبلغت القيادة الإسرائيلية بأن الملك حسين قدّم تأكيدات لبريطانيا في الخريف الماضي أنه سيبذل جهده لكبح جماح عمليات فتح الفدائية من شرق الأردن...إلا أن الإسرائيليين الطيبين ( charitable Israelis) قالوا: إذا كان يتم تضليل الملك حسين من قبل ضباطه وقيادته العسكرية فمن الأفضل له أن يقضي وقتا أكبر في بلده بدلا من أن يلف العالم من أجل التحريض وصناعة حالة دولية معادية لإسرائيل..) "هذه البرقية من الأرشيف الوطني البريطاني المفرج عنه عام 1998" ومن خلال هذه البرقية يتضح تماما كيف كان الملك حسين يحرض ضد الكيان الصهيوني و كيف كان يدعم العمل الفدائي رغم كل الضغوطات بذكاء وسياسية عزّ نظيرها.

 

دور الاستخبارات العسكرية الأردنية قبل معركة الكرامة

لقد قامت الاستخبارات العسكرية بدور عظيم لولا فضل الله أولا ومن ثم ذلك الدور العظيم لحقق العدو الصهيوني مراده من هجومه العسكري في يوم الكرامة، وحقيقة لم يعط هذا الدور الاستخباري حقه التاريخي من قبل كثير منا.

فمن المعلوم أن عنصر المفاجأة من عناصر الانتصار الأساسية في أي معركة. وهذا العنصر إن لم يكن هناك استخبارات قوية مخلصة قادرة على جمع المعلومات و استخلاص واستشراف نوايا العدو لكان كفيلا بتحقيق أهداف القوة المهاجمة.

فقد استطاعت الاستخبارات العسكرية بقيادة العقيد غازي عربيات رحمه الله تعالى، الرصد للحصول على كل التحركات والمعلومات العسكرية عن العدو حتى أنها استطاعت أن تتوقع حجم القوات ويوم الهجوم وساعة الصفر والمقتربات التي سيتقدم عليها العدو مما أفقد الكيان الصهيوني القدرة على تحقيق عنصر المفاجأة ومكّن القوات المسلحة الأردنية من التحضير والاعداد والاستعداد لهذا الهجوم المعادي.

ومما يذكر أن العقيد غازي عربيات بذاته كان يتخفى بزي راعي أغنام مع قطيع من الغنم يرعى بها حتى يصل إلى أقرب نقطة من أراضي الضفة الغربية المحاذية للنهر وهناك يلتقي مع متعاونين ومقاومين من أبناء الضفة الغربية يقدموا له كل المعلومات والتحركات العسكرية داخل الضفة وعلى مدار أسابيع وأيام عديدة مما مكّنه من بناء تصور أكيد عن خطوات العدو المستقبلية وإعطاء تلك التصورات و التوقعات للقيادة العامة للقوات المسلحة. والتي بنت عليها خطة الاستعداد والدفاع العسكرية.

00:00:00