مدير عام الضمان الاجتماعي سابقا
التأمين الصحي.. بين فرصة ضائعة وفرص واعدة
التأمين الصحي: ضرورة، والضرورة لا تنقطع
لم يكن التأمين الصحي أضغاث أحلام، ولا هبّة عابرة، ولا ترفا في تفكير، بل كان مشروعا وطنيا له مبرراته وغايته؛ فالرعاية الصحية وضمان وصولها بعدالة إلى أكبر شريحة ممكنة من المواطنين هي ليست فقط غاية وحاجة يتوجب الإسراع في تحقيقها، وإنما حالة لطالما كان تحققها سببا في تطور الدول، أو على الأقل مؤشرا لقدرتها على تحقيق أهداف وغايات وطنية أخرى لا تقل أهمية عنها، وهذا ما جعلها موضوع ثابت في كتب التكليف السامي والتوجيهات الملكية المباشرة للحكومات المتعاقبة. فالدول التي تعجز عن إرساء منظومة متكاملة للحماية والتأمينات الاجتماعية، هي بالضرورة دول لا تتمتع بإمكانيات إدارية وفنية قادرة على جعل نفسها وجهة للمستثمرين والمبتكرين والمفكرين.
نواة مشروع التأمين الصحي
ليس سرا أن مشروع التأمين الصحي لم يكن مدرجا على أجندة الإصلاحات التي كان يسير بها الضمان الاجتماعي قبل سنوات من اليوم، فهناك أولويات أخرى حرصنا على تناولها ومعالجتها أولا بأول؛ فالاستدامة المالية ومعالجة عدد من الاختلالات التأمينية وتوفير جملة من البرامج التي تخدم المشتركين والمتقاعدين على حد سواء، كانت تتصدر سلم الأولويات.
"التأمين الصحي، كان أحد أبرز مخرجات الحوار الوطني الذي أجراه الضمان الاجتماعي في مختلف محافظات المملكة"
لكن نهج الحوار الوطني الذي عملنا على اتباعه، لوضع المعنيين بتلك التعديلات من مشتركين ومتقاعدين وشركات ومؤسسات، بصورة تلك التحديات والمبررات التي تستدعي المضي قدما بها، هو الذي فرض علينا التفكير مليا بالتأمين الصحي، فقد كان مطلبا شعبيا له مبرراته ومسوغاته. فكيف لا، ونحو ثلث سكان المملكة لا يتمتعون بأي تأمين صحي، كيف لا وهناك شريحة واسعة من المشمولين في التأمين الصحي العام والخاص يتجرعون الأمرّين للحصول على الرعاية الصحية الملائمة عند إصابتهم بأمراض تحتاج للرعاية الشمولية والمتخصصة، وهنا تبدأ رحلة المعاناة، إلى أين "جهة علاجية"، وكم "التكلفة"، ومن أين "تغطية التكاليف".
في الوقت نفسه ينفق الأردن ما يقرب 8% من ناتجه المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، وهي من أعلى النسب العالمية، إلا أن مستوى الرضا عن الخدمات هو أقل بكثير من مستواها في دول تنفق نسبة أقل من دخلها. فالإشكالية تكمن في كفاءة هذا الإنفاق، وهي نتيجة تتخللها تفاصيل عديدة، فهي قد تعني هدرا في الموارد، أو مبالغة في كلف المعالجات الطبية، أو سوءا في توزيع الموارد، وقد تعني جميعها، وهي كذلك.
من هنا، بدأنا نفكر مليا: لماذا لا نعيد إحياء مشروع التأمين الصحي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التطبيق في عام 2010، لماذا لا نلجأ إلى الحلول المؤسسية المستدامة بدلا من الحلول الطارئة و"الفزعات" العشوائية، لماذا لا نستكمل حزم التأمينات الاجتماعية التي يتوجب أن يشملها الضمان الاجتماعي ونجعلها متكاملة مع بعضها بعضا.. "اوعك"، "ايش اللي مبلشكم بوجعة الراس"، "راح يفلس الضمان"، هي ذاتها عقلية الانطباع النمطي "الستيريو تايب" التي كنا نتعامل معها منذ اليوم الأول الذي أفصحنا به عن مشروع المئوية الثانية من عمر الدولة الأردنية، وهي الهواجس ذاتها التي كانت سائدة عند الشروع بإنشاء المؤسسة في نهايات العقد السادس من القرن الماضي. إلا أن تعاملنا معها كان، بـ "مهلا مهلا"، وليس بهذه العقلية و "السوداوية" تنهض الدول بمشاريعها الوطنية.
بلورة المشروع
"مشروع التأمين الصحي وتصميمه، كان نتاج دراسات معمقة وحوار وطني مستفيض"
لم يكن لدينا توجه مسبق حول الشكل الذي سينتهي عليه مشروع التأمين الصحي، إنما هي الدراسات المعمقة لواقع الخدمات الصحية والتأمين الصحي في المملكة، والحوار الوطني ذاته، الذي جعلتنا نخرج بالتوليفة الأولية للمشروع، ومن ثم الدراسة التي طلبنا من منظمة العمل الدولية تنفيذها في تشرين أول 2021، لتقييم الكلف المالية لمشروع التأمين الصحي المقترح ضمن عدد من السيناريوهات الممكنة، من حيث الشرائح المشمولة وحزمة المنافع المغطاة واستدامته المالية، وغيرها من الاعتبارات الهامة.
في هذه الأثناء كانت نخبة من العاملين في المؤسسة قد شرعت بدراسة الموضوع من كافة جوانبه بالتعاون مع كافة الجهات المعنية بالقطاع الصحي، من جهات علاجية عامة وخاصة، وشركات التأمين، وخبراء لهم باع طويل في هذا الشأن، بالإضافة إلى اجتماعات مكثفة مع مؤسسة الحسين للسرطان التي أجرت دراسة اكتوارية لشمول الفئة المستهدفة في مشروع الضمان الاجتماعي بالعلاج في مرافق مركز الحسين للسرطان. لقد كان بالفعل حوارا مثمرا، أفضى هو ونتائج الدراسة التي وصلت للضمان الاجتماعي في آذار 2022، الى إحداث تحسينات عديدة على المشروع.
مرتكزات المشروع
بداية، لقد انطلق المشروع من الاعتبارات ونطاق توزيع المسؤوليات بين كافة الجهات المعنية بتوفير الرعاية الصحية في المملكة، ولعل أبرزها إبقاء الرعاية الصحية الأولية ضمن مسؤوليات وزارة الصحة ومرافقها، فهذه مسؤولية أصيلة للدولة ومؤسساتها، وهو ما دفعنا إلى مطالبة وزارة الصحة بإجراء تحسينات ملموسة وشاملة في الخدمات التي تقدمها للمواطنين إذا ما أرادت الحصول على مقابل مالي من الضمان لقاء هذه الخدمات، بعد أن أصبحت تطالبه بتحمل كلف الرعاية الصحية الأولية للفئات التي ستنضوي تحت مظلته، هذا على الرغم من كونها تندرج ضمن مهامها ومسؤولياتها الأصيلة.
"المشروع في مرحلته الأولى، استهدف تغطية تكاليف العلاج داخل مستشفيات القطاع الخاص والعام، وكان يعول على نجاح وزارة الصحة في تحسين خدمات الرعاية الصحية الأولية"
من هنا، فقد ركز مشروعنا على خدمات العلاج داخل المستشفيات باعتبارها الخدمة الأساسية المكملة لخدمات الرعاية الصحية الأولية وذات العبء الأكبر على جيوب المواطنين. وإدراكا منا لضرورة البناء على المؤسسات الطبية الراسخة في المملكة وخبراتها والاستثمارات الكبيرة المتوفرة لدى القطاع الخاص، من كوادر ومرافق ومنشآت طبية، بالإضافة إلى الخبرات والإمكانيات المتوفرة لدى القطاع التأميني في إدارة المخاطر وإدارة التأمين، فقد كنا حريصين على أن يكون التأمين الصحي المزمع تطبيقه، مكملا وداعما لعمل هذه الجهات وليس مزاحما لها.
"التأمين كان يعول على الشراء الاستراتيجي والقوة التفاوضية للضمان بوصفه المشتري الأكبر للخدمات الصحية"
المسألة الأخرى التي كان يعول عليها المشروع، هو القوة التفاوضية التي سيتمتع بها الضمان الاجتماعي على اعتبار أن التأمين بنطاق شموله المقترح، سيجعل من الضمان الاجتماعي المشتري الأكبر للخدمات العلاجية في المملكة. وانطلاقا من هذه الحقيقية، فلم يترك المشروع مسألة العلاج خارج المستشفيات خارج حسابته، بل كان يعد الترتيبات للحصول على تسعيرة تفضيلية لصالح المشمولين في التأمين المقترح، وهو ما كان يلقى قبولا مبدئيا لدى الجهات الطبية والتأمينية المعنية. وللتقدم بخطوات ملموسة باتجاه هذه الترتيبات الهامة، فقد تم تشكيل لجنة تضم نخبة من الخبراء المعنيين في القطاع الصحي في المملكة.
المعالم الرئيسة للمشروع المقترح
من سيشمل المشروع، وماذا يشمل، ومن يمول؟ لعلها أبرز الأسئلة التي يجب أن تتوفر لها إجابات صريحة عند الشروع بتصميم التأمينات الاجتماعية وتطبيقها. فيما يتعلق بالفئات المستهدفة بهذا التأمين، فقد كان التركيز منصبا على العاملين في القطاع الخاص والمتقاعدين غير المشمولين بأي تأمين صحي، بالإضافة إلى عائلاتهم. فشمول العامل وحده دون أفراد أسرته، سيحد من دور التأمين وأهميته للفئات المشمولة به. بالإضافة لتضمين منفعة علاج السرطان في مركز الحسين للسرطان لكل من لا يشمل تأمينه هذه المنفعة بشكل واضح وصريح.
"التأمين بصورته الأولية، استهدف شمول المشتركين والمتقاعدين غير المشمولين بمظلة مؤسسية للتأمين الصحي"
في موازاة ذلك، لم يميز المشروع بين نسب الاشتراكات التي تترتب على شمول العامل أو المتقاعد، فلم يميز بين الأعزب والمتزوج، وبين من لديه معالين ومن لا يعيل أحدا، الجميع سواسية في الكلف المالية، فالتأمين المقترح هو كسائر التأمينات الاجتماعية التي تستند إلى التضامن بين الجيل الواحد وبين الأجيال المتعاقبة، فالأعزب يتضامن مع المتزوج، وأصحاب الأجور والرواتب المرتفعة يتضامنون مع أصحاب الأجور والرواتب الأقل، والمعافون صحيا يتكافلون مع المرضى، وهكذا.
وبالمناسبة هذه ليست بالاشتراكية، إنما هي محور عمل أنظمة التأمينات الاجتماعية التي تطبقها أكثر الأنظمة الرأسمالية تمترسا.
هذا بشأن الترتيبات المتعلقة بالاشتراكات، ماذا عن الاشتراكات ذاتها؟ في الواقع، كنا نحاول نحن وشركاؤنا في القطاع الخاص والقطاع غير الحكومي، الخروج بآليات وترتيبات تقلل من الأعباء المالية على المشمولين والمعنيين بالتأمين، لذا فقد كنا نبحث مسألة آليات وترتيبات شراء الخدمات العلاجية والمنافع المشمولة وآليات التحويل وغيرها من التفصيلات الدقيقة في مرحلة مبكرة من عمر المشروع، فهذه تفاصيل مهمة تؤثر بشكل كبير في الكلف المالية للتأمين واستدامته، فكما يقال، الشيطان يكمن في التفاصيل.
التمويل الحكومي وكرة الثلج المتدحرجة للإعفاءات
النسخة الأولى من المقترح كانت تعول على مساهمة مالية دورية من الحكومة في نفقات التأمين. وبطبيعة الحال، لم تُبنَ هذه الفرضية على مبدأ "العشَم" أو طمعا بالسخاء الحكومي، بل كانت لها مبرراتها الموضوعية. فالتأمين بصيغته المقترحة، كان سيشمل جانبا كبيرا من المواطنين الذين يتلقون علاجهم بموجب إعفاءات طبية تتحمل الحكومة تغطية تكاليفها "دفتريا" وبكلفة قد تتجاوز 300 مليون دينار سنويا، وهي آلية لها مشكلاتها وتحدياتها المرتبطة بالعدالة وعدم الكفاءة ومحدودية وصول الدعم لمستحقيه، هذا فضلا عن تأثيراتها السلبية الممتدة على المالية العامة، فاستقرار الآفاق المستقبلية للموازنة العامة وتحسينها كانت ضمن الأهداف الأخرى التي كنا نسعى لتحقيقها، فكيف لا وأكثر من 60% من موجودات الضمان الاجتماعي مستثمرة في السندات الحكومية.
"المشروع كان يعول على المساهمة الحكومية كونه سيخفف من الكلف المالية للإعفاءات التي قد تتجاوز قيمتها 300 مليون دينار سنويا"
لم تتعامل الحكومة آنذاك، ووزارة المالية على وجه الخصوص، بجدية مع المقترح. فقد كان هناك تعمد واضح في إخراج هذه الاجتماعات عن غاياتها والدخول في تفاصيل لا تمت للمشروع بصلة، وعند التحدث عن عبء الإعفاءات، فلسان حال المسؤولين كان ينكرها، على اعتبار أنها مستحقة وليس من الضروري تسديدها، من مبدأ ترحيل المشكلات وعدم مواجهتها والعمل على معالجتها، وهذا ما يفسر تردي الأوضاع المالية وبالتالي الخدماتية لجانب كبير من المنشآت الصحية الخاصة التي تقف اليوم عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها المترتبة عليها نتيجة لتخلف الحكومة عن تسديد المستحقات المترتبة عليها.
وفي ضوء التعامل السلبي مع المقترح والتركيز على المدى الزمني قصير الأمد الذي كان يعني بالضرورة عدم القدرة على الالتزام بأي مبالغ مالية للتأمين، بدأ الضمان الاجتماعي بالتفكير في سبل توفير تمويلات إضافية للتأمين، وتم طرح مقترح فرض ضريبة إضافية محدودة على منتجات التبغ والسجائر لتوفير مخصصات مالية دورية للتأمين، وهو مقترح يندرج ضمن الممارسات العالمية التي تستند في فرضها إلى ضرائب ورسوم مشابهة قائمة على العلاقة القائمة بين الأوضاع الصحية للسكان وكلف المعالجات الطبية من جهة، وبين معدلات التدخين، من جهة أخرى وبطبيعة الحال، قوبل المقترح بالرفض بحجة أن مثل هذا الإجراء سيحفز بالضرورة التهريب. علما بأن الحكومة قد لجأت بعد أشهر من هذا الطرح إلى زيادة أسعار التبغ مرتين وبمعدلات تصل إلى ضعف ما كان مقترحا من قبل الضمان الاجتماعي.
"لم تبدِ الحكومة أي استعداد للمساهمة المالية في التأمين، لذلك، تم اقتراح حل بديل، وهو رسوم إضافية ولكن محدودة على منتجات التبغ، وهو ما تم رفضه أيضا"
في ضوء كل هذا الإصرار على عدم التعاون، اتجه الضمان الاجتماعي إلى البديل الآخر الذي يزيد من الأعباء على المشمولين بالتأمين المقترح، لكنه يبقى الخيار الأفضل، إذا ما قورن مع الوضع الأساسي "Status Quo" وهو الخيار الذي دعمته الحكومة بشكل رسمي بموجب كتاب وجهه رئيس الوزراء للضمان الاجتماعي، يطلب فيه من الضمان الاجتماعي المضي قدما بمشروعها للتأمين الصحي.
"التأمين المقترح في صيغته النهائية، استند في إطاره التمويلي إلى مساهمة مباشرة من قبل المشمولين فيه، ومساهمة غير مباشرة من قبل أصحاب العمل"
هذا الخيار استند بشكل أساسي إلى مساهمة أكبر من قبل العامل لقاء شموله وأفراد أسرته بالتأمين، علما بأن النسبة التي تم اقتراحها تتناسب مع نسبة الاقتطاع التي يساهم بها المواطن المشمول بالتأمين الصحي المدني بالإضافة للمساهمة غير المباشرة من قبل أصحاب العمل من خلال تخصيص جانب من فوائض تأمين إصابات العمل لصالح التأمين الصحي، على اعتبار أن اشتراكات التأمين الأول تدفع بالكامل من قبل أصحاب العمل "المنشآت".
التأمين الصحي: إعادة إحياء المشروع والبناء على الجهود السابقة
اليوم، هناك فرصة حقيقية أمام الحكومة لإعادة التفكير بهذا المشروع الوطني الملحّ، الذي إذا ما تم تنفيذه، فإنه سيشكل دعامة اقتصادية واجتماعية للأجيال المتعاقبة، تماما كما هي تأمينات الضمان الاجتماعي. هناك تصور بذلت جهود كبيرة في تصميمه ودراسته والحوار حوله، يمكن للحكومة وفريقها الاقتصادي والخدماتي البناء عليه وتجويده بما يحقق مصلحة جميع الأطراف ذات العلاقة بالتأمين، والأهم من ذلك أن لا تقبل بأي حلول مجتزأة وسطحية، التي إن تم اعتمادها، فقد تقتل مشروع التأمين الصحي الشامل لعقود قادمة من الزمن.