قانوني، كاتب
مستقبل المشروع التركي في الشرق الأوسط

في ظل غياب المشروع العربي الكبير وبعد أن تم إفشال مشروع الشريف حسين بن علي في إقامة الدولة العربية الكبرى عقب الحرب العالمية الأولى من القرن الماضي، بقي المشروع الغربي الداعم للاحتلال هو المشروع الوحيد المسيطر على المنطقة حتى ثمانينيات القرن الماضي، الذي بدأت تظهر فيه إيران بعد الثورة الإسلامية كقوة لديها مشروع توسعي في المنطقة.
ومع بداية القرن الحالي، ومع صعود حزب العدالة والتنمية التركي، بدأت ملامح مشروع تركي في الظهور كمعبِّر عن مشروع قريب من الإسلام السياسي السني المزاحم للإسلام السياسي الشيعي. لكن بقي المشروع التركي مشروعا حائرا؛ ففي الوقت الذي كان يسعى فيه بعض قادة العدالة والتنمية الأكثر انفتاحا إلى الاستمرار في السياسة الأتاتوركية بالتوجه نحو الغرب وإدارة ظهرهم للشرق، كانت هناك نظرة أخرى يتزعمها أردوغان تهدف إلى زيادة نفوذ المشروع التركي في الشرق.
رهان المشروع التركي في المنطقة
راهن المشروع التركي، مع بداية الربيع العربي، على نجاح هذه الثورات العربية وإقامة حكومات ديمقراطية عمودها الفقري الإسلام السياسي الذي جاءت به الصناديق الانتخابية في كل بلدان الربيع العربي التي شهدت انتخابات حرة ونزيهة.
الإسلام السياسي الذي يعد الرحم الأيديولوجي الذي تولد منه النظام الحاكم في تركيا بصيغته المدنية الحديثة، فكانت تركيا ترى في أنظمة الربيع العربي المنتخبة، والتي تتسلح بالشرعية الشعبية، فرصة كبيرة لتمديد أواصر التعاون والتفاهم في المنطقة، مما يحقق مصالح الجميع، وخاصة لبلد صناعي ناهض مثل تركيا، مما سيخلق أسواقا وتبادلا اقتصاديا كبيرا يكون فيه بكل تأكيد الميزان التجاري لصالح تركيا، نظرا للحالة التي تعاني منها معظم الدول العربية بعد سنوات من الاستبداد والنظم الاقتصادية المتخلفة والبنية التحتية المهترئة والمنظومة التعليمية المتواضعة مما يعطي لتركيا اليد العليا في المنطقة، لكن الرهان التركي على أنظمة الثورات ذهب أدراج الرياح بعد موجة الثورات المضادة التي انقلبت على الربيع العربي سريعا ومكنت حكم الاستبداد من جديد.
انتكاسة مؤقتة للمشروع التركي
تراجع المشروع التركي كثيرا وانكمش في المنطقة بعد الثورات المضادة وانتكاسة الربيع العربي وانتهائه عند المحطة السورية، وتحوله إلى حرب أهلية في أكثر من بلد عربي.
كما كان للتمدد الإيراني عبر أذرعها الطائفية في المنطقة وإحكامها السيطرة على الساحة السورية أثر كبير في انتكاسة قوية لمحاولة قيام المشروع التركي. فالمشروع الإيراني الذي تقمص ثوب مقاومة المشروع الغربي و"إسرائيل" استطاع منذ عام 2003 أن يسيطر على بعض العواصم العربية ويعبث بمكوناتها الطائفية، مما أشعل لهيب الطائفية في المنطقة وفتت الدول العربية وذكّى بها الحروب الأهلية. كل ذلك أفسد المجال أمام المشروع التركي وتقدمه.
كما أن صعود المشروع الصهيوني نتيجة للاتفاقيات الإبراهيمية التي عقدت في ولاية ترامب الأولى، جعل المشروع التركي في المنطقة مشروعا حائرا، وأصبح أكثر ميلا للعودة إلى مربع المشروع الغربي الإسرائيلي.
في تلك المرحلة، رأينا كيف بدأ المشروع التركي يبرد نقاط الخلاف مع أنظمة الثورات المضادة العربية وينفتح عليها، وتراجع عن حالة التصعيد بينه وبين روسيا بعد إسقاط الطائرة الروسية. كما لاحظنا كيف ذهب إلى مؤتمر أستانة فيما يتعلق بخفض التصعيد في سوريا، حتى سعى إلى محاولة إعادة العلاقات مع النظام السوري المخلوع قبل سقوطه بأشهر والذي رفض المصالحة رغم ضعفه، قبل أن تنسحب تركيا من الأراضي السورية التي تسيطر عليها.
جاءت أحداث سوريا التي أسقطت النظام السوري السابق لتبدل المشهد في كل المنطقة. فبدأت تتهاوى معالم المشروع الإيراني في المنطقة، فخرجت إيران بخسارة كبيرة من سوريا، كما بدأ ينحسر نفوذها في لبنان، وأصبحت تعاني في العراق، وتلقت ضربات قوية في اليمن.
وأمام التراجع الإيراني، كانت تركيا حاضرة بقوة لتشغل الفراغ في سوريا، إذ جاء النظام السياسي الجديد -والذي تربطه بالنظام التركي علاقات سياسية وثيقة- لتبدأ مرحلة انتعاش للمشروع التركي من جديد. هذا التحول السياسي لصالح تركيا أزعج "إسرائيل" التي ترى في تركيا دولة تحاول أن تملأ الفراغ الذي شغلته إيران في الساحة العربية، مما يشكل حالة من الخطر على التفوق الإسرائيلي في المنطقة.
مستقبل المشروع التركي في المنطقة
بعد سقوط النظام السوري، وإدارة القيادة الأمريكية ظهرها لأوروبا وتخليها عن أوكرانيا، وتلميحها بالانسحاب من "الناتو" تحت شعار "لن ندافع عن من لا يدفع"، ومطالبتها الدول الأوروبية أن تنفق 5% من ناتجها القومي على الدفاع، تعززت الحاجة الأوروبية إلى القوة التركية العسكرية الصاعدة لتعزيز أمنها.
وفي ظل الرغبة الأمريكية -وعلى لسان رئيسها- في بناء علاقات قوية مع تركيا، وحديثه عن العلاقات التي تربطه برئيس تركيا، ولأن الأمريكيين يستطيعون إدارة الخلافات بين حلفائهم في الشرق الأوسط بما يحقق المصالح الأمريكية ومصالح الجميع، فإن المشروع التركي سيحقق بعض التقدم في المنطقة وفق الملامح التالية:
-
سوف تساعد أمريكا وتساهم في حل الخلاف التركي الإسرائيلي في سوريا، مما يسمح بوجود عسكري تركي في سوريا، لكن على قاعدة تضمن فيها "إسرائيل" ألا تشكل الساحة السورية أي خطر يهددها في المستقبل.
-
يمكن أن تذهب تركيا إلى أبعد من ذلك، فتتقمص دور الوسيط بين الإدارة السورية و"إسرائيل" بما يحقق إعادة الأمور إلى اتفاق عام 1973، مقابل ضمانات تركية لـ"إسرائيل" تحقق لها الأمن الذي تريده.
-
الدعم التركي الكبير لسوريا الجديدة، ونجاحها في تكوين تحالف عربي يدعم النظام السوري الجديد لضمان عدم عودة المشروع الإيراني إلى المنطقة، قد يجعل من سوريا المستقرة والناهضة بداية لانطلاقة مشروع تركي أكثر نفوذ، لكن رغم انسجام هذا المشروع طائفيا مع المحيط العربي، فإنه سيظل مشروعا يثير حساسية سياسية عالية لدى الأنظمة العربية غير الديمقراطية، التي يشكل أي نجاح لأي حالة من حكم الشعوب العربية لنفسها خطرا يهدد شرعياتها السياسية القائمة.
-
الحاجة الأوروبية إلى القوة التركية لتحقيق أمن أوروبا بعد الالتفات الأمريكي عن الأمن الأوروبي، سوف يعزز الدور التركي في المنظومة الأوروبية. ولا يستبعد أن يتم إحياء ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وما يعنيه ذلك من إعادة صياغة علاقة أوروبا بالمنطقة، وتولي تركيا دور طليعة هذا المشروع، ليعطي لتركيا دفعة نفوذ قوية في المنطقة.
اقرأ المزيد.. جدليات فكرية.. العلمانية