قانوني، كاتب
جدليات فكرية.. العلمانية
في العالم العربي لدى الشعوب انطباع سلبي جدا عن مفهوم العلمانية والعلمانيين، هذه الانطباعات لم تأت من فراغ فمردها إلى الممارسات السلبية لمن يمثلون الفكر العلماني في العالم العربي؛ إذ ظهر أتباع الفكر العلماني كمدافع فقط عن الحريات الشخصية والحريات الجنسية على وجه الخصوص وحقوق المرة الجنسية، فأصبحت العلمانية في الوعي العربي كرديف للتحلل الأخلاقي في بيئة عربية محافظة فظهر العلماني العربي وكأنه مدافع عن الشذوذ والانحلال الأخلاقي لا مدافع عن بناء الدولة بشكل حضاري التي جاءت النظرية العلمانية من أجلها.
تعريفات العلمانية المتعددة
العلمانية كما هي كثير من المصطلحات في البيئة العربية تلفها ضبابية التعريف وأحيانا التحريف والذهاب بها إلى مربعات بعيدة عن محتواها، فحتى نفهم العلمانية لا بد لنا من تفتيت هذا المصطلح وإزالة الضبابية التي تلف هذا المصطلح فالحكم على الشيء جزء من تصوره.
البعض يعرف العلمانية بأنها فصل الدين عن الحياة، والبعض يعرفها بأنها فصل الدين عن الدولة، والبعض الآخر يعرفها بأنها فصل الدولة عن رجل الدين.
أميل شخصيا إلى التعريف الذي يقول إن العلمانية هي فصل الدولة عن رجل الدين فالبيئة التي نشأت وتطورت فيها بعد الثورة الفرنسية كانت توجه مشكلة مع رجل الدين الذي تحالف مع الحكم المستبد في فرنسا، فكانت الثورة على المستبد ورجل الدين وكان الشعار السائد حينها اشنقوا آخر مستبد بأمعاء آخر قسيس.
أما القول بأن العلمانية هي فصل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن الدولة، فهذا قول لا يمكن أن يكون صحيحا على أرض الواقع، الدين جزء من شخصية الإنسان، فالشخص في تركيبته بنية مادية وفكرية والدين جزء مهم من تلك البنية الفكرية، فعندما نقول فصل الدين عن الحياة أو فصل الدولة عن الدين، فكأننا نقول فصل الإنسان عن الحياة أو فصل الإنسان عن الدولة، وهذا أمر لا يمكن أن يستقيم في طبائع الأشياء، فالإنسان هو محور الحياة، فلا يمكن فصل الإنسان عن الحياة كما لا يمكن فصل الإنسان عن الدولة فهو العنصر الرئيسي في تكوين الدولة التي تتكون من ثلاثة عناصر الشعب والأرض والنظام السياسي.
أقسام العلمانية حسب موقفها من الدين
يمكن تصنيف العلمانية إلى عدة أصناف حسب موقفها من الديمقراطية والحرية وموقفها من الدين، إذ تنقسم وفقا لموقفها من الدين إلى:
علمانية متطرفة
ترفض كل ما هو ديني وتبالغ في محاربة إظهار أي رمز من الرموز الدينية في المجال العام فنراها تحارب الخروج بالحجاب أو أي رمز ديني لأي ديانة أخرى، ومن الأمثلة على تلك العلمانيات العلمانية التركية بنسختها الأتاتوركية والعلمانية التي كان يطبقها الاتحاد السوفيتي قبل الانهيار والذي كان يعتنق الإلحاد، والفرنسية الحالية وإن كان بشكل أقل.
علمانية محايدة اتجاه الدين
معظم العلمانيات الغربية علمانيات محايدة اتجاه الدين؛ فالدولة تقف على مسافة واحدة من كل أتباع الأديان، كما أن الدولة لا ترعى الدين ولا دور العبادة ولا تنفق عليها لكنها أيضا لا تقف ضدها أو تضيق عليها وتحجمها وتترك رجال الدين وأتباع الدين يتحركون ويعملون في المجتمعات ما لم يخالفوا نصوص وسقف القانون.
علمانية مؤمنة
وهي المتصالحة مع الدين والتي تحاول أن تدعمه وترعى شؤونه كما هو الحال في العلمانية التركية الحديثة التي تعتنق الدين الإسلامي، وتلك الهندية التي تعتنق الدين الهندوسي، والإسرائيلية التي تعتنق الدين اليهودي، لكن هذا النوع من العلمانية أظهر أنه قريب جدا من ممارسة الكراهية اتجاه الآخرين وتفجير صراعات طائفية في الدولة التي يتواجد بها، كما هو الحال في العلمانية الهندية الهندوسية التي أصبحت تميل نحو الكراهية اتجاه كل ما هو غير هندوسي وأصبحت تستخدم الدين كمحرك من محركات الكراهية في المجتمع الهندي وتضطهد المسيحيين والمسلمين الهنود، وكذلك العلمانية الإسرائيلية التي تحاول أن تجعل الدولة الإسرائيلية دولة يهودية تعادي وترفض كل من لا يعتنق الدين اليهودي وأصبحت تفجر صراعات كراهية وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني وحتى من يحمل الجنسية الإسرائيلية منهم.
أقسام العلمانية حسب حكم الشعب للشعب الحكم المستبد
كما تنقسم العلمانية اتجاه حكم الشعب للشعب والحكم الرشيد إلى علمانيات حرة وعلمانيات مستبدة:
علمانيات حرة
تعد جميع الدول الغربية المتحضرة والدول الديمقراطية الأخرى علمانيات حرة، علمانيات تؤمن بالحريات السياسية والتداول السلمي للسلطة وحقوق المواطنة ودولة القانون وحقوق المرأة والطفل وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
علمانية مستبدة
لا تؤمن بالحرية ولا الديمقراطية ولا التداول السلمي للسلطة يحكمها مستبد أو دكتاتور أو حكم الفرد الواحد، كما هو في علمانيات دول العالم الثالث وتواجه تلك العلمانيات المستبدة حالة من ثورات الشعوب بين الحين والآخر، ينجح بعض تلك الثورات في التحول نحو الديمقراطية والحرية، وبعضها ينزلق للحروب الأهلية كما حصل في سوريا والعراق وليبيا، وبعض تلك الدكتاتوريات يحكم سيطرته على السلطة إلى أطول فترة ويرحل حالة الانفجار الشعبي إلى المستقبل.
بلا شك أن التعمق في تفتيت المصطلحات ودراسة النماذج العملية القائمة سوف يزيل كثيرا من خيوط الاشتباك حول بعض الأفكار والمصطلحات والنظريات السياسية وحتى لا نذهب إلى التسطيح واختزال الأمور والمعارف في بعض التعريفات السطحية التي تؤدي إلى انطباعات وتطبيقات سطحية مضرة.
اقرأ المزيد.. قصة قصيرة "في قريتنا علماني"